الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ) [ ص: 115 ] ذكر الله سبحانه وتعالى أعلى صنف في الوجود الإنساني ، وهم الذين علوا بنفوسهم وأعمالهم ، وذكر في مقابلهم الذين أركسوا أنفسهم في مهاوي الباطل حتى سدت عليهم كل مسالك الإدراك للحق ، ثم ذكر من بعدهم الحائرين بين الهداية والضلال ، يرون نور الحق ويبصرونه ، ثم يتركونه ، فيتركون الحق وقد بدت لديهم معالمه ، ويتجهون إلى الظلام ، وقد أشرق نوره ، ولمعت في الوجود شمسه ، وأولئك هم المنافقون .

                                                          وقد روي عن مجاهد أنه قال : أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في المنافقين .

                                                          وقد تم بيان صفات المتقين ، ونبتدئ في آيتي الكافرين ، فقد قال : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون .

                                                          بين سبحانه الذين يتقبلون هداية القرآن ، فينزل على قلوبهم كما ينزل الغيث على الأرض الطيبة ، فتنبت أطيب النبات ، وتثمر خير الثمر . وهم المتقون الذي جرى في القرآن الكريم في الآيات السابقة وصفهم . والكافرون جاء وصفهم في الآيات الكريمة على نقيض المتقين ، إذ إن هؤلاء المتقين امتلأت نفوسهم بالاتجاه إلى ما وراء المادة ، فلم يستول على قلوبهم بريق المادة ، ولم يستغرقهم سلطانها ، بل انفعلت نفوسهم متأثرة بما وراءها متعرفة أسرار الوجود من الموجود ، أما الذين كفروا فقد استغرقتهم المادة ، وسيطرت عليهم ، فلا يفكرون إلا فيها ، وفيما تحيط به ، والله سبحانه وتعالى خلق كل نفس ، وهداها ، فإن استقامت في إدراك الحقائق أوصلها إلى الحق ، وإن عميت واعوجت ابتداء ، فلم تر إلا المادة سارت في طريق غير سوي . والله سبحانه وتعالى يقول : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا [ ص: 116 ] وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة فالله " تعالى خلق الخلق ، وأودع كل نفس طريق العلم ، فأعطاه أدوات المعرفة كلها ، وجعل السمع يستمعون به والأبصار يبصرون بها ، والقلوب يدركون بها ، فمن جعل هذه الأدوات متجهة إلى النور فقد أبصر ، فيكون من المتقين ، ومن أحاطت به مادة الدنيا ، ولم ينفذ ببصره وقلبه إلى ما وراءها ، فإنه لا بد سائر في طريق الغواية ، مبتعد عن طريق الهداية ، وكل إنسان وما يسر له ، فإن غلبت عليه السعادة اتقى ، وإن غلبت عليه الشقوة كفر .

                                                          والكفر في أصل معناه اللغوي الستر ، ومن ذلك إطلاق الكفار على الزراع لأنهم يسترون البذر لينبت نباتا طيبا كقوله تعالى : كمثل غيث أعجب الكفار نباته أي أعجب الزراع نباته ، وقد أطلق من بعد ذلك على ستر الفطرة وطمس الحق ، لأن الفطرة الإنسانية فطرة الله ، فطر الناس عليها تتجه إلى الحق ، وتدرك نوره ، فالكفر ستر نور الفطرة الذي ينبثق نحو الحقيقة ، كما يطلق الكفر على جحود النعمة ، وإنكارها ، ومن ذلك قوله تعالى : لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد .

                                                          ومن ذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : " أريت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ، ورأيت أكثر أهلها النساء ، قيل : بم يا رسول الله ; قال : بكفرهن . قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إليهن الدهر كله ، ثم رأت منك شيئا ، قالت : ما رأيت منك خيرا قط " . وذكر الله تعالى الكفر من غير متعلق فقال : إن الذين كفروا للدلالة على جحود كل خير ، فلا يكفر الكفار بالله تعالى وحده ، بل يكفرون بكل نعمة ، وينكرون كل خير ، وتغلب عليهم [ ص: 117 ] مادية شرسة لا يؤمنون إلا بها وينكرون ما عداها ، وتسد عنهم مسامع الخير ، فلا يصلون إليه ، ولا يتجهون نحوه ، وبذلك تسد مسامعهم عن كل إنذار بعاقبة ما يفعلون .

                                                          وإذا كانوا قد فقدوا كل الإنصات إلى ما يهديهم ، فهم لا يؤمنون سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، والإنذار يفسره علماء اللغة بأنه تخويف من أمر مستقبل يتوقع وقوعه أو يؤكد وقوعه ، وعند المنذر سعة من الوقت يمكنه فيه أن يتوقاه ، وقالوا : إذا لم يكن متسع من الوقت لتفاديه يكون ذلك إشعارا .

                                                          ومعنى سواء عليهم أأنذرتهم ، أنه يستوي عندهم إنذارك وعدم إنذارك ، فالاستفهام هنا للمعادلة ، أي أنه يستوي الإنذار وعدمه ، والمصدر هنا ثبت بالاستفهام ، أو من غير أداة مصدر ، كقولك : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي : سماعك بالمعيدي خير من أن تراه .

                                                          ومعنى ذلك أنه سجل عليهم الكفر والجحود ، لأن الشر قد استغرق نفوسهم ، ولم يكن ثمة موضع لسماع داعي الهدى حتى أغلق قلبه عن كل ما يدعو إلى الخير ، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء ، وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه " . وروى الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الرجل ليقترف الذنب فيسود قلبه " ، فإن هو تاب صقل قلبه ، وقال تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ، أولئك الذين كفروا وستروا الفطرة ، وأطفأوا نور الإيمان بتوالي ذنوبهم ، واستمراء جحودهم ، تحيط بهم خطاياهم فلا يؤمنون بالحق سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم .

                                                          وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى بـ " إن " الدالة على توكيد حكم ما بعدها .

                                                          [ ص: 118 ] أكد الله تعالى هذا المعنى شارحا حالتهم النفسية ، وانطباعها على الشر ، وعدم تقبل الهداية ، فقال تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة .

                                                          الختم مصدر ختمت ختما فهو مختوم ومعناه تغطية الشيء ، والاستيثاق من الغطاء حتى لا يدخله شيء من خارجه ، والختم يكون محسوسا ، وإطلاقه على الأمور المعنوية يكون مجازا أو استعارة ، ويكون المعنى أن الله تعالى شبه ابتعادهم عن الهداية ، والحيلولة بين قلوبهم ووصول الحق إليها ، بسبب ما تواردت عليه من أسباب الشك والارتياب وإظلام القلوب ، وعدم قبولها لنور الهداية - شبهه بحال ما ختم عليه بختم استيثاقا من ألا يفتح ويدخل عليه شيء من الإيمان ، وكان على القلوب ، فلا يكون معها مكان لهداية ، وعلى السمع ، فلا ينفتح لسماع كلمة حق هادية ، وذلك من كثرة ما توارد عليها من أسباب العصيان والجحود ، حتى طبع الله تعالى عليها بكفرهم ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين ، أبيض مثل الصفا ، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا (أي مقلوبا ) لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا " رواه الصحيحان ، ولقد قال ابن جرير في تفسيره : " إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم الذي ذكره الله سبحانه وتعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم .

                                                          والمعنى أن الذين أركست قلوبهم بتضافر ذنوبهم ، وتوالي جحودهم ، واستغراق المادة تغلق عليهم مسالك الهداية ، وتسد عليهم مسام النور ، فلا تصل إليهم هداية .

                                                          [ ص: 119 ] وعبر عن ختم قلوبهم وسمعهم بجمع القلوب ، وإفراد السمع ; لأن الأسباب التي تغلق القلب متعددة ، بتعدد أصناف الهوى ، فكأن كل واحدة تسكن قلبا ، وتتعدد القلوب بتعدد ما ملأها من أهواء ، وتتضافر هذه الأهواء ، وأفرد السمع ; لأنه طريق واحد ، وجارحة واحدة ، ونور الحق واحد ، وصوته واحد ، ولكن لا يسمع .

                                                          والوقف على قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وقوله تعالى : وعلى أبصارهم غشاوة فإن ختم القلوب يكون على القلب ، وعلى السمع ، أما الأبصار ، فإن عليها غشاوة ، وتكرار (على ) في قوله : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم للدلالة على تقوية الختم ، وتأكيده بحيث لا يصل إلى النفس منه شيء عن طريق القلب المدرك أو السمع الواعي .

                                                          وقوله تعالى : وعلى أبصارهم غشاوة الغشاوة الغطاء الذي يحول بين البصر والرؤية ، وذكر الأبصار بالجمع بدل الإفراد لتعدد المبصرات الموجهة التي يتوجه البصر إليها ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات أوتاد ، وماء ينزل من السماء ، ومرسلات حاملات للرياح ، وخلق مجدد مستمر ، وحياة وموت ، قال تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ، وهكذا تتعدد المبصرات ، وفيها الآيات البينات الدالة على قوة القادر على كل شيء ، القاهر فوق عباده .

                                                          فلتعدد هذه المبصرات ذكرت الأبصار بالجمع لا بالمفرد ، والله بكل شيء محيط .

                                                          ولقد ذكر الله تعالى عقاب أولئك الكافرين الذين لا تجدي معهم النذر ، ولا يجدي معهم بيان الحق في ذاته ، وقد طبع الله تعالى على قلوبهم التي شعبتها الأهواء ، وعلى سمعهم فلا يستمعون للحق ، ووضع الله على أبصارهم غطاء يحول [ ص: 120 ] بينهم وبين معرفة الآيات البينات ، وبين سبحانه وتعالى ما قرره لهم من عقاب ، فقال تعالى : ولهم عذاب عظيم العذاب كالنكال ، وقد ذكر الزمخشري المعنى اللغوي له ، فقال في كشافه : العذاب مثل النكال بناء ومعنى ; لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه ، كما تقول : " نكل عنه " ، ومنه العذب ، لأنه يقمع العطش ويردعه ، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لأنه ينقخ العطش أي يكسره ، وفراتا لأنه يرفته على القلب ، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابا ، وإن لم يكن نكالا ، أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة .

                                                          هذا تحليل لغوي كتبه الزمخشري ونقلناه ، والذي نخرج منه أن العذاب نكال وإيلام فادح لمنع المعاودة ، وأنه يلتقي مع العذاب ، فسبحان الله يجعل من العذب الذي ينقع العطش عذابا يمنع الجريمة .

                                                          وقوله : ولهم عذاب عظيم ، أي أنهم يستحقون استحقاق اختصاص وملك ، عذابا عظيما ، كبيرا ليس بصغير ، جزاء ما كان من تشويه فطرتهم ، والطمس على قلوبهم ، عذابا كبيرا ، لا يكتنه كنهه ، ولا يعرف قدره .

                                                          وفي الحقيقة ، إنهم ينالهم عقابان : أحدهما - ما فسدت به طبائعهم وتشوهت به مداركهم ، فإن نزول الإنسان عن مرتبة الإنسان إلى ما دونه من مرتبة الحيوان والخنازير والقردة الذين ينزون إلى الشهوات نزوا هو في ذاته عقوبة مستمدة من ذواتهم .

                                                          العقوبة الثانية أن لهم عذابا عظيما يوم القيامة . والتنكير في غشاوة فيه إشارة إلى أنه نوع من أنواعها خاص بهم أساسه التعالي على الحق .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية