الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              9 [ ص: 462 ] 3 - باب : أمور الإيمان

                                                                                                                                                                                                                              وقول الله تعالى: لن تنالوا البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [البقرة: 177]. وقوله قد أفلح المؤمنون [المؤمنون: 1] الآية.

                                                                                                                                                                                                                              9 - حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي: حدثنا أبو عامر العقدي: حدثنا سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان". [مسلم 35 - فتح: 1 \ 51]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان".

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: التعريف برواته.

                                                                                                                                                                                                                              أما أبو هريرة فاختلف في اسمه واسم أبيه على أقوال كثيرة، أفرد في جزء، وأقربها عبد الله أو عبد الرحمن بن صخر الدوسي.

                                                                                                                                                                                                                              وهو أول من كني بهذه الكنية; لهرة كان يلعب بها كناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وقيل: والده، وكان عريف أهل الصفة، أسلم عام خيبر [ ص: 463 ] بالاتفاق وشهدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسيأتي -حيث ذكره البخاري- ما يدل على أنه حضر فتحها.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: إنه خرج معه إليها، رواه البخاري من طريق ثور، وقال موسى بن هارون: وهم ثور، إنما قدم بعد خروجه ثم لزمه وواظب عليه، وحمل عنه علما جما، وهو أكثر الصحابة رواية بإجماع.

                                                                                                                                                                                                                              روي له خمسة آلاف حديث، وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثا. اتفقا على ثلاثمائة وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين ومسلم بمائة وتسعين. روى عنه أكثر من ثمانمائة رجل من صاحب وتابع منهم: ابن عباس وجابر وأنس. وهو أزدي دوسي يماني ثم مدني، كان ينزل بذي الحليفة بقرب المدينة، له بها دار تصدق بها على مواليه.

                                                                                                                                                                                                                              ومن الرواة عنه ابنه المحرر -بحاء مهملة ثم راء مكررة- مات بالمدينة سنة تسع وخمسين، وقيل: سبع، وقيل: ثمان. ودفن بالبقيع، وتوفيت عائشة تلك السنة، وصلى عليها أبو هريرة، وتوفي وهو ابن ثمان وسبعين سنة، ومناقبه جمة.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              ما اشتهر أن قبره بقرب عسقلان لا أصل له فاجتنبه، نعم، هناك [ ص: 464 ] قبر خيشنة بن خندرة الصحابي فاعلمه، وقد نبهت على ذلك في "شرح العمدة".

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثانية:

                                                                                                                                                                                                                              أبو هريرة من الأفراد، ليس في الصحابة من اكتنى بهذه الكنية سواه.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الرواة آخر اكتنى بهذه الكنية، يروي عن مكحول، وعنه أبو المليح الرقي لا يعرف، وآخر اسمه محمد بن فراس الضبعي روى له الترمذي، ومات سنة خمس وأربعين ومائتين.

                                                                                                                                                                                                                              وفي أصحابنا الشافعية: آخر اكتنى بهذه الكنية واسمه: ثابت بن (سنبل)، قال (عبد القادر) في حقه: شيخ فاضل مناظر، ذكرته عنه في "الطبقات".

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عنه فهو أبو صالح ذكوان السمان الزيات المدني، كان يجلب السمن والزيت إلى الكوفة، مولى جويرية بنت الأحمس الغطفاني، ووقع في شرح شيخنا أنه مولى جويرية بنت الحارث، امرأة من قيس.

                                                                                                                                                                                                                              سمع جمعا من الصحابة وخلقا من التابعين، وعنه جمع من التابعين منهم: عطاء، وسمع الأعمش منه ألف حديث، وروى عنه أيضا بنوه:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 465 ] عبد الله وسهيل وصالح، واتفقوا على توثيقه. مات بالمدينة سنة إحدى ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              أبو صالح في الرواة جماعة سلف بيانهم في الحديث الرابع من باب: بدء الوحي.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              في الصحيحين أيضا ذكوان، أبو عمرو مولى عائشة أم المؤمنين، وليس في الكتب الستة ذكوان غيرهما.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عن أبي صالح فهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن دينار، أخو عمرو بن دينار - ذكره النووي في "شرحه"- القرشي العدوي المدني، مولى ابن عمر سمع مولاه وغيره، وعنه: ابنه عبد الرحمن وغيره، وهو ثقة باتفاق. مات سنة سبع وعشرين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              في الرواة أيضا عمرو بن دينار (البصري) ليس بالقوي، وليس في الكتب الستة عمرو بن دينار غيرهما.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 466 ] وأما الراوي عن عبد الله فهو أبو محمد، ويقال: أبو أيوب سليمان ابن بلال القرشي التيمي المدني مولى آل الصديق.

                                                                                                                                                                                                                              سمع عبد الله بن دينار وجمعا من التابعين وعنه الأعلام: كابن المبارك وغيره. قال محمد بن سعد: كان بربريا جميلا حسن الهيئة عاقلا، وكان يفتي بالبلد، وولي خراج المدينة، ومات بها سنة اثنتين وسبعين ومائة، وقال البخاري عن هارون بن محمد: سنة سبع وسبعين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              ليس في الكتب الستة من اسمه سليمان بن بلال سوى هذا.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عن سليمان فهو أبو عامر عبد الملك بن عمرو بن قيس العقدي -بفتح العين والقاف- البصري، سمع مالكا وغيره، وعنه: أحمد والناس، واتفق الناس على ثقته وجلالته، مات سنة خمس، وقيل: أربع ومائتين.

                                                                                                                                                                                                                              والعقد: قوم من قيس وهم بطن من الأزد كذا في "التهذيب" [ ص: 467 ] وتبعه النووي في "شرحه" وشيخنا أيضا. ونقل شيخنا في "تاريخه" عن أهل النسب أن العقد بطن من بجيلة، وقيل: من قيس بالولاء.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو الشيخ الحافظ: إنما سموا عقدا; لأنهم كانوا لئاما. وقال الحاكم: العقد مولى الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وقال صاحب "العين": العقد قبيلة من اليمن من بني عبد شمس بن سعد، وجمل عقدي: قوي.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عن أبي عامر فهو: أبو جعفر (خ ت) عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان بن أخنس بن خنيس الجعفي البخاري المسندي -بفتح النون-. سمي بذلك; لأنه كان يطلب المسندات ويرغب عن المرسل والمنقطعات.

                                                                                                                                                                                                                              قال صاحب "الإرشاد": كان يتحرى المسانيد من الأخبار، وقال الحاكم أبو عبد الله: عرف بذلك; لأنه أول من جمع مسند الصحابة على التراجم مما وراء النهر وهو ابن عم عبد الله بن سعيد بن جعفر بن اليمان.

                                                                                                                                                                                                                              واليمان هذا: هو مولى أحد أجداد البخاري، ولاء إسلام كما سلف أول الكتاب، سمع وكيعا وخلقا، وعنه الذهلي وغيره من الحفاظ، مات سنة تسع وعشرين ومائتين، وانفرد البخاري [به] عن أصحاب الكتب الستة، وروى الترمذي عن البخاري عنه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 468 ] فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الإسناد كلهم مدنيون إلا العقدي فبصري، وإلا المسندي وكلهم على شرط الستة إلا المسندي كما بيناه، وفيه رواية تابعي عن تابعي وهو عبد الله بن دينار، عن أبي صالح.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              هذه الترجمة ساقها البخاري للدلالة على إطلاق اسم الإيمان على الأعمال كما أسلفناه في الحديث قبله. وأراد به الرد على قول المرجئة: إن الإيمان قول بلا عمل فلا تضر المعصية مع الإيمان، ومقابله قول الخوارج أنها تضر ويكفر بها، وغالت المعتزلة فقالت: يخلد بها فاعل الكبيرة ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر لكن يوصف بأنه فاسق، والحق مذهب الأشعرية أنه مؤمن، وإن عذب فلا بد من دخول الجنة.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه البخاري عن عبد الله كما سلف، ورواه مسلم في الإيمان عن عبيد الله بن سعيد وعبد بن حميد، عن العقدي به، وقال فيه: "بضع وسبعون"، ورواه أيضا، عن زهير، عن جرير، عن سهيل بن عبد الله، عن ابن دينار عنه، وقال فيه: "بضع وسبعون أو بضع وستون" على الشك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 469 ] الوجه الرابع: في بيان ألفاظه ومعانيه.

                                                                                                                                                                                                                              الأول: البر: اسم جامع للخير كله.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سيده: إنه الصدق والطاعة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الهروي: هو الاتساع في الإحسان والزيادة منه، ومنه يقال: أبر فلان على فلان بكذا أي: زاد عليه، ومنه سميت البرية; لاتساعها.

                                                                                                                                                                                                                              وقال السدي: في قوله تعالى: لن تنالوا البر [آل عمران: 92] يعني: الجنة.

                                                                                                                                                                                                                              والبر أيضا: الصلة، وهو اسم جامع للخير كله. وفي "الجامع" و"الجمهرة": إنه ضد العقوق، وقال ابن السيد في "مثلثه": إنه الخير، وكذا ذكره ابن عديس عنه، ونقل صاحب "الواعي" عنه أنه الإكرام.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الشريعة" للآجري من حديث المسعودي عن القاسم عن أبي ذر: أن رجلا سأله عن الإيمان، فقرأ عليه ليس البر الآية، فقال الرجل: ليس عن البر سألتك، فقال أبو ذر: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله كما سألتني، فقرأ عليه كما قرأت عليك، فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى، فقال: "ادن مني" فدنا منه. فقال: "المؤمن الذي يعمل حسنة فتسره، ويرجو ثوابها، وإن عمل سيئة تسوؤه، ويخاف عاقبتها".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 470 ] الثاني: معنى قوله تعالى: لن تنالوا البر أي: ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك ولكن البر من آمن بالله [البقرة: 177] الآية. أي: بر من آمن كذا قدره سيبويه، وقال الزجاج: ولكن ذا البر فحذف المضاف كقوله هم درجات عند الله [آل عمران: 163]، أي: ذوو درجات.

                                                                                                                                                                                                                              والأول فيه حذف المضاف كقوله تعالى: وأشربوا في قلوبهم العجل [البقرة: 93]، وما قدره سيبويه أولى; لأن المنفي هو البر، فيكون هو المستدرك من جنسه. وبقية تفسير الآية محل الخوض فيها كتب التفسير، فلا نطول به، وكذا الآية التي بعدها.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: قوله: "الإيمان بضع وستون شعبة" كذا وقع هنا في بعض الأصول "بضع" وفي أكثرها "بضعة" بالهاء، وأكثر الروايات في غير هذا الموضع: "بضع" بلا هاء، وهو الجاري على اللغة المشهورة، ورواية الهاء صحيحة أيضا على التأويل.

                                                                                                                                                                                                                              الرابع: البضع والبضعة -بكسر الباء على اللغة المشهورة- وبها جاء القرآن العظيم، ويجوز فتحها في لغة قليلة كما في قطعة اللحم، وهو مستعمل فيما بين الثلاثة والعشرة.

                                                                                                                                                                                                                              هذا هو الصحيح المشهور في معناه، وفيه أقوال أخر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 471 ] قال ابن التياني في "الموعب" عن الأصمعي: يقال: بضعة عشر في جمع المذكر، وبضع عشرة في جمع المؤنث، وقال قطرب: أنا الثقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " في بضع سنين [الروم: 4] ما بين خمس إلى سبع" وقالوا: ما بين الثلاث إلى الخمس.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الفراء: البضع: نيف ما بين الثلاثة إلى التسعة، كذلك رأيت العرب تفعل، ولا يقولون: بضع ومائة، ولا بضع وألف، ولا يذكر إلا مع عشر أو مع العشرين إلى التسعين.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الزجاج : معناه القطعة من العدد، ويجعل لما دون العشرة من الثلاث إلى التسع وهو الصحيح، وقال أبو عبيدة: هو ما بين الواحد إلى الأربعة، وفي "المحكم": البضع ما بين الثلاث إلى العشر وبالهاء من الثلاثة إلى العشرة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال قوم في قوله تعالى: فلبث في السجن بضع سنين [يوسف: 42]، يدل على أن البضع سبع; لأن يوسف -عليه السلام- لبث كذلك فيه، وفي "الصحاح": لا تقول: بضع وعشرون.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 472 ] وقال المطرز في "شرحه": المختار أنه من أربعة إلى تسعة، والنيف من واحد إلى ثلاثة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن السيد في "مثلثه": البضع بالفتح والكسر: ما بين واحد إلى خمسة في قول أبي عبيدة. وقال غيره: ما بين واحد إلى عشرة. وهو الصحيح.

                                                                                                                                                                                                                              الخامس: الشعبة -بضم الشين-: القطعة والفرقة، وهي واحد الشعب، وهي: أغصان الشجرة.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سيده: الشعبة: الفرقة والطائفة من الشيء. وكذا قال القاضي: إن أصلها الفرقة والقطعة، ومنه شعب الآباء، وشعوب القبائل، وشعبها الأربع، وواحد شعب القبائل: شعب -بفتح الشين وقيل بكسرها- وهم العظام، وكذا شعب الإناء: صدعه -بالفتح أيضا-، ومنه قوله في الحديث: فاتخذ مكان الشعب سلسلة وقال الخليل: الشعب: الاجتماع والافتراق أي: فهما ضدان. والمراد بالشعبة في الحديث: الخصلة. أي أن الإيمان ذو خصال متعددة.

                                                                                                                                                                                                                              السادس: قوله: "الإيمان بضع وستون شعبة". كذا وقع هنا من طريق أبي زيد المروزي، وثبت في "صحيح مسلم" وغيره من حديث سهيل عن عبد الله بن دينار: "بضع وسبعون أو بضع وستون" كما سلف. ورواه [ ص: 473 ] أيضا من حديث العقدي عن سليمان: "بضع وسبعون شعبة".

                                                                                                                                                                                                                              وكذا وقع في البخاري من طريق أبي ذر الهروي، ورواه أبو داود والترمذي وغيرهما من رواية سهيل: "بضع وسبعون" بلا شك.

                                                                                                                                                                                                                              ورجحها القاضي عياض وقال: إنها الصواب، وكذا رجحها الحليمي وجماعات منهم النووي ; لأنها زيادة من ثقة فقبلت وقدمت. وليس في رواية الأقل ما يمنعها، وقال ابن الصلاح: الأشبه ترجيح الأقل; لأنه المتيقن والشك من سهيل، كما قاله البيهقي، وقد روي عن سهيل عن جرير: "وسبعون" من غير شك، وكذا رواية سليمان بن بلال في مسلم وفي البخاري: "بضع وستون".

                                                                                                                                                                                                                              السابع: قد بين - صلى الله عليه وسلم - أعلى هذه الشعب وأدناها كما ثبت في الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعلاها لا إله إلا الله"، وفي لفظ أنه "أفضلها" وفي [ ص: 474 ] آخر أنها "أرفعها" وآخر "أقصاها"، وآخر "أعظمها". "وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". ولفظ اللالكائي : "العظم" بدل "الأذى" ورواه محمد بن عجلان عن ابن دينار عن أبي صالح: "الإيمان ستون بابا أو سبعون أو بضع" واحد من العددين.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه قتيبة، عن بكر بن مضر، عن عمارة بن غزية، عن أبي صالح: "الإيمان أربع وستون بابا".

                                                                                                                                                                                                                              وروى المغيرة بن عبد الرحمن بن عبيد قال: حدثني أبي، عن جدي -وكانت له صحبة- أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإيمان ثلاثمائة وثلاثون شريعة، من وافى الله بشريعة منها دخل الجنة".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 475 ] وروى ابن شاهين من حديث الإفريقي، عن عبد الله بن راشد مولى عثمان بن عفان عن أبي سعيد مرفوعا: "إن بين يدي الرحمن -عز وجل- لوحا فيه ثلاثمائة وتسع عشرة شريعة يقول -عز وجل-: لا يجيئني عبد من عبادي لا يشرك بي شيئا فيه واحد منهن إلا أدخلته الجنة ".

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث عبد الواحد بن زيد، عن عبد الله بن راشد، عن مولاه عثمان مرفوعا: "إن لله تعالى مائة خلق من أتى بخلق منها دخل الجنة".

                                                                                                                                                                                                                              قال لنا أحمد: سئل إسحاق: ماذا في الأخلاق؟ قال: يكون في الإنسان حياء، يكون فيه رحمة، يكون فيه سخاء، يكون فيه تسامح، هذا من اخلاق الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الحسن عبد الرحمن بن عمر بن يزيد من حديث ابن مهدي، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن صلة، عن حذيفة: الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، الصلاة سهم، والزكاة سهم، [ ص: 476 ] وصوم رمضان سهم، والحج سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له.

                                                                                                                                                                                                                              الثامن: بين - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي سقناه أن أعلى الشعب التوحيد المتعين على كل مكلف، والذي لا يصح غيره من الشعب إلا بعد صحته، وأن أدناها ما يتوقع منه ضرر المسلمين، وبقي بينهما تمام العدد، فيجب علينا الإيمان به، وإن لم نعرف أعيان جميع أفراده، كما نؤمن بالأنبياء والملائكة صلوات الله وسلامه عليهم، وإن لم نعرف أعيانهم وأسماءهم.

                                                                                                                                                                                                                              وقد صنف العلماء في تعيين هذه الشعب كتبا كبيرة، من أغزرها فوائد، وأعظمها محلا: كتاب "المنهاج" لأبي عبد الله الحليمي، ثم كتاب البيهقي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 477 ] وصنف عبد الجليل القصري فيه أيضا، وإسحاق بن إبراهيم القرطبي في "النصائح".

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حاتم بن حبان -بكسر الحاء المهملة- في كتاب "وصف الإيمان وشعبه": تتبعت معنى هذا الحديث مدة، وعددت الطاعات، فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئا كثيرا، فرجعت إلى السنن، فعددت كل طاعة عدها الشارع من الإيمان، فإذا هي تنقص [ ص: 478 ] عن البضع والسبعين، فرجعت إلى كتاب الله تعالى، وقرأته بالتدبر، وعددت كل طاعة عدها الله تعالى من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فضممت إلى الكتاب السنة وأسقطت المعاد، فإذا كل شيء عده الله ورسوله من الإيمان بضع وسبعون لا يزيد عليها ولا ينقص، فعلمت أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا العدد في الكتاب والسنة.

                                                                                                                                                                                                                              التاسع: الحديث ناص على إطلاق اسم الإيمان الشرعي على الأعمال وقد سلف بيان هذا.

                                                                                                                                                                                                                              العاشر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "والحياء شعبة من الإيمان"، وفي رواية أخرى في "الصحيح": "الحياء من الإيمان"، وفي أخرى: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، وفي أخرى: "الحياء خير كله". فالحياء: ممدود هو الاستحياء.

                                                                                                                                                                                                                              قال الواحدي عن أهل اللغة: الاستحياء من الحياء، واستحيا [ ص: 479 ] الرجل من قوة الحياء لشدة علمه بمواقع العيب. قال: فالحياء من قوة الجبن ولطفه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الجنيد: حيي حياء رؤية الآلاء أي: النعم ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء. وإنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة; لأنه قد يكون تخلقا واكتسابا كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة، ولكن استعماله على قوة قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم، فهو من الإيمان لهذا; ولكونه باعثا على أفعال الخير، ومانعا من المعاصي، ورب حياء يمنع من الخير، ويجبن عن قول الحق وليس بحياء حقيقة، بل هو عجز وخور، وتسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازا; لشبهه الحقيقي، وإنما حقيقته خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ونحوه.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة: الحياء أيضا بالمد والقصر: الفرج من إناث الخف والظلف والسباع، وخص ابن الأعرابي الشاة والبقرة والظبية، وبالقصر: الخصب والمطر، وحكي المد فيها أيضا.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية