الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان ما يحله القضاء ، وما لا يحله ، فالأصل أن قضاء القاضي بشاهدي الزور فيما له ولاية إنشائه في الجملة ، يفيد الحل عند أبي حنيفة - رحمه الله - وقضاؤه بهما فيما ليس له ولاية إنشائه أصلا ، لا يفيد الحل بالإجماع ، وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - والشافعي - رحمه الله - لا يفيد الحل فيهما جميعا ، فنقول : جملة الكلام فيه أن القاضي إذا قضى بشاهدين ، ثم ظهر أنهما شاهدا زور ، فلا يخلو إما أن قضى بعقد أو بفسخ عقد ، وإما أن قضى بملك مرسل ، فإن قضى بعقد أو بفسخ عقد فقضاؤه يفيد الحل عنده ، وعندهم لا يفيد ، ولقب المسألة أن قضاء القاضي في العقود والفسوخ بشهود زور هل ينفذ ظاهرا وباطنا ؟ فهو على الخلاف الذي ذكرنا .

                                                                                                                                وإن قضى بملك مرسل ، لا ينفذ قضاؤه باطنا بالإجماع ، وبيان هذه الجملة في مسائل : إذا ادعى رجل على امرأته أنه تزوجها ، فأنكرت ، فأقام على ذلك شاهدي زور ، فقضى القاضي بالنكاح بينهما - وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما - حل للرجل وطؤها ، وحل لها التمكين عند أبي حنيفة ، وعندهم لا يحل وكذا إذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا - وهو منكر - فقضى القاضي بالفرقة بينهما ، ثم تزوجها أحد الشاهدين ; حل له وطؤها ، وإن كان يعلم أنهما شهدا بزور عنده ، وعندهم لا يحل ، وعلى هذا الخلاف دعوى البيع والإعتاق .

                                                                                                                                وفي الهبة عن أبي حنيفة - رحمه الله - روايتان ، وأجمعوا على أنه لو ادعى نكاح امرأة ، وهي تنكر وتقول : أنا أخته من الرضاع ، أو أنا في عدة من زوج آخر ، فشهد بالنكاح شاهدان ، وقضى القاضي بشهادتهما ، والمرأة تعلم أنها كما أخبرت لا يحل لها التمكين ، وأجمعوا أيضا على أنه لو ادعى رجل أن هذه جاريته ، وهي تنكر ، فأقام على ذلك شاهدين ، وقضى القاضي بالجارية ، أنه لا يحل له وطؤها إذا كان يعلم أنه كاذب في دعواه ، ولا يحل لأحد الشاهدين أيضا أن يشتريها احتجوا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، وإنما أنا بشر ، فمن قضيت له من مال أخيه شيئا بغير حق ، فإنما أقطع له قطعة من النار } أخبر الشارع عليه الصلاة والسلام أن القضاء بما ليس للمدعي قضاء له بقطعة من النار ، ولو نفذ قضاؤه باطنا لما كان القضاء به قضاء بقطعة من النار ; ولأن القضاء إنما ينفذ بالحجة - وهي الشهادة الصادقة - وهذه كاذبة بيقين فلا ينفذ حقيقة ; ولهذا لم ينفذ بالملك المرسل ، وكذا إذا كانت المرأة محرمة بالعدة والردة ، أو الرضاع أو القرابة ، أو المصاهرة ، كذا هذا ، ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن قضاء القاضي بما يحتمل الإنشاء إنشاء له ، فينفذ ظاهرا وباطنا ، كما لو أنشأ صريحا .

                                                                                                                                ودلالة الوصف أن القاضي مأمور بالقضاء بالحق ، ولا يقع قضاؤه بالحق فيما يحتمل الإنشاء إلا بالحمل على الإنشاء ; لأن البينة قد تكون صادقة ، وقد تكون كاذبة ، فيجعل إنشاء ، والعقود والفسوخ مما تحتمل الإنشاء من القاضي ، فإن للقاضي ولاية إنشائها في الجملة بخلاف الملك المرسل ; لأن نفس الملك مما لا يحتمل الإنشاء ; ولهذا لو أنشأ القاضي أو غيره صريحا - لا يصح ، وبخلاف ما إذا كانت المرأة محرمة بأسباب ; لأن هناك ليس للقاضي ولاية الإنشاء ، ألا ترى أنه لو أنشأ صريحا لا ينفذ وأما الحديث فقد [ ص: 16 ] قيل : إنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك في أخوين اختصما إليه في مواريث درست بينهما ، فقال إلى آخره ولم يكن لهما بينة إلا دعواهما ، كذا ذكره أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها ، والميراث ومطلق الملك سواء في الدعوى - وبه نقول - مع أنه ليس فيه ذكر السبب ، والكلام في القضاء بسبب على أنا نقول بموجبه ، لكن لم قلتم : إن القضاء بسبب قضاء له من مال آخر بغير حق ؟ بل هو قضا له من مال نفسه ، وبحق ; لأن القضاء بسبب الملك صحيح عندنا ، فقد قلنا بموجب الحديث ، والحمد لله وحده .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية