الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 150 ] آ . (39) قوله تعالى : فنادته الملائكة : قرأ الأخوان : "فناداه " من غير تاء تأنيث ، والباقون : "فنادته " بتاء التأنيث . والتذكير والتأنيث باعتبار الجمع المكسر ، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكير باعتبار الجمع ، والتأنيث باعتبار الجماعة ، ومثل هذا : إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يقرأ بالتاء والياء ، وكذا قوله : تعرج الملائكة . قال الزجاج : "يلحقها التأنيث للفظ الجماعة ، ويجوز أن يعبر عنها بلفظ التذكير لأنه يقال : جمع الملائكة ، وهذا كقوله : وقال نسوة انتهى وإنما حسن الحذف هنا الفصل بين الفعل وفاعله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تجرأ بعضهم على قراءة العامة فقال : " أكره التأنيث لما فيه من موافقة دعوى الجاهلية ؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث . وتجرأ أبو البقاء على قراءة الأخوين فقال : "وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية ، فلذلك قرأ من قرأ : " فناداه "بغير تاء ، والقراءة به غير جيدة لأن الملائكة جمع ، وما اعتلوا به ليس بشيء ، لأن الإجماع على إثبات التاء في قوله : وإذ قالت الملائكة . وهذان القولان الصادران من أبي البقاء وغيره ليسا بجيدين ، لأنهما قراءتان متواترتان ، فلا ينبغي أن ترد إحداهما البتة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 151 ] والأخوان على أصلهما من إمالة " فناداه " ، والرسم يحتمل القراءتين معا أعني التذكير والتأنيث .

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على أن الملائكة المراد بهم واحد وهو جبريل . قال الزجاج : " أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة كقولك : "فلان يركب السفن " أي : هذا الجنس "ومثله : الذين قال لهم الناس وهم نعيم بن مسعود . وقوله " إن الناس "يعني أبا سفيان ، ولما كان جبريل رئيس الملائكة أخبر عنه إخبار الجماعة تعظيما له . وقيل : " الرئيس لا بد له من أتباع ، فلذلك أخبر عنه وعنهم ، وإن كان النداء إنما صدر منه " ، ويؤيد كون المنادى جبريل وحده قراءة عبد الله ، وكذا في مصحفه : " فناداه جبريل " ، والعطف بالفاء في قوله : فنادته مؤذن بأن الدعاء معتقب بالتبشير .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وهو قائم جملة حالية من مفعول النداء ، و " يصلي "يحتمل أوجها ، أحدها : أن يكون خبرا ثانيا عند من يرى تعدده مطلقا نحو : " زيد شاعر فقيه " . الثاني : أنه حال ثانية من مفعول النداء ، وذلك أيضا عند من يجوز تعدد الحال . الثالث : أنه حال من الضمير المستتر في " قائم "فيكون حالا من حال . الرابع : أن يكون صفة لقائم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : في المحراب متعلق بيصلي ، ويجوز أن يتعلق بقائم إذا جعلنا " يصلي "حالا من الضمير في " قائم " ؛ لأن العامل فيه حينئذ وفي الحال شيء واحد فلا يلزم منه فصل ، أما إذا جعلناه خبرا ثانيا أو صفة لقائم أو حالا من المفعول لزم الفصل بين العامل ومعموله بأجنبي ، هذا معنى كلام [ ص: 152 ] الشيخ ، والذي يظهر أنه يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع ، فإن كلا من قائم ويصلي يصح أن يتسلط على " في المحراب " ، وذلك جائز على أي وجه تقدم من وجوه الإعراب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله :" إن الله" قرأ نافع وحمزة وابن عامر بكسر "إن " ، والباقون بفتحها . فالكسر عند الكوفيين لإجراء النداء مجرى القول فليكسر معه ، وعند البصريين على إضمار القول ، أي : فنادته فقالت . والفتح على حذف حرف الجر تقديره : فنادته بأن الله ، فلما حذف الخافض جرى الوجهان المشهوران في محلها .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قراءة عبد الله "فنادته الملائكة : يا زكريا " فقوله "يا زكريا " هو مفعول النداء ، وعلى هذه القراءة يتعين كسر "إن " ولا يجوز فتحها لاستيفاء الفعل معموليه ، وهما : الضمير وما نودي به زكريا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : "نبشرك " قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الخمسة - في هذه السورة : إن الله يبشرك موضعان ، وفي سورة الإسراء : ويبشر المؤمنين ، وفي سورة الكهف : ويبشر المؤمنين أيضا بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين مشددة من : بشره يبشره . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ثلاثتهم - كذلك في سورة الشورى وهو ذلك الذي [ ص: 153 ] يبشر الله عباده ، وقرأ الجميع دون حمزة كذلك في سورة براءة : يبشرهم ربهم برحمة منه وفي أول الحجر في قوله : إنا نبشرك بغلام عليم ، ولا خلاف في الثاني وهو قوله : فبم تبشرون أنه بالتثقيل ، وكذلك قرأ الجميع دون حمزة في سورة مريم موضعين : إنا نبشرك لتبشر به المتقين ، وكل من لم يذكر مع هؤلاء - من قرأ بالتقييد المذكور - فإنه يقرأ بفتح حرف المضارعة وسكون الباء وضم الشين .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا أردت معرفة ضبط هذا الفصل فاعلم أن المواضع التي وقع فيها الخلاف المذكور تسع كلمات ، والقراء فيها على مراتب : فنافع وابن عامر وعاصم ثقلوا الجميع ، وحمزة خفف الجميع ، وابن كثير وأبو عمرو ثقلا الجميع إلا التي في سورة الشورى فإنهما وافقا فيها حمزة ، والكسائي خفف خمسا منها وثقل أربعا ، فخفف كلمتي هذه السورة وكلمات الإسراء والكهف والشورى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم أن في هذا الفعل ثلاث لغات : "بشر " بالتشديد ، وبشر بالتخفيف ، وعليه ما أنشده الفراء :


                                                                                                                                                                                                                                      1256 - بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجاج يتلى كتابها



                                                                                                                                                                                                                                      والثالثة : "أبشرت " رباعيا ، وعليه قراءة بعضهم "يبشرك " بضم الياء ، ومن التبشير قول الآخر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 154 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1257 - يا بشر حق لوجهك التبشير     هلا غضبت لنا وأنت أمير



                                                                                                                                                                                                                                      وقد أجمع على مواضع من هذه اللغات نحو : فبشرهم بعذاب . وأبشروا ، فبشرناها بإسحاق ، فلم يرد الخلاف إلا في المضارع دون الماضي والأمر ، وقد تقدم معنى البشارة واشتقاقها في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : بيحيى متعلق بـ يبشرك ، ولا بد من حذف مضاف أي : بولادة يحيى ، لأن الذوات ليست متعلقة للبشارة ولا بد في الكلام من [شيء ] عاد إليه السياق تقديره : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، دل على ذلك قرينة الحال وسياق الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                      و "يحيى فيه قولان أحدهما : - وهو المشهور عند أهل التفسير - أنه منقول من الفعل المضارع ، وقد سموا بالأفعال كثيرا نحو : يعيش ويعمر ويموت ، قال قتادة : " سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان "وقال الزجاج : " حيي بالعلم "وعلى هذا فهو ممنوع الصرف للعلمية ووزن الفعل نحو : " يزيد ويشكر وتغلب " . والثاني : أنه أعجمي لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهر فامتناعه للعلمية والعجمة الشخصية . وعلى كلا القولين فيجمع على يحيون بحذف الألف نحو : " موسون "بحذف الألف وبقاء الفتحة تدل عليها . وقال الكوفيون : " إن كان عربيا منقولا من الفعل فالأمر كذلك ، وإن كان أعجميا ضم ما قبل الواو وكسر ما قبل الياء إجراء له مجرى المنقوص نحو : جاء [ ص: 155 ] القاضون ، ورأيت القاضين "هذا نقل الشيخ عنهم . ونقل ابن مالك عنهم أن الاسم إن كانت ألفه زائدة ضم ما قبل الواو وكسر ما قبل الياء نحو : جاء حبلون ورأيت حبلين ، وإن كانت أصلية نحو : " رجون "وجب فتح ما قبل الحرفين ، قالوا : " فإن كان أعجميا جاز الوجهان ، لاحتمال أن تكون ألفه أصلية أو زائدة ، إذ لا يعرف له اشتقاق "ويصغر يحيى على " يحيى "وأنشدت للشيخ أبي عمرو ابن الحاجب في ذلك :


                                                                                                                                                                                                                                      1258 - أيها العالم بالتصريف لا زلت تحيا     إن يحيى إن يصغر فيحيا
                                                                                                                                                                                                                                      وأبى قوم وقالوا ليس هذا الرأي حيا     إنما كان صوابا أن يجيبوا بيحيا
                                                                                                                                                                                                                                      كيف قد ردوا يحيا     والذي اختاروا يحيا
                                                                                                                                                                                                                                      أتراهم في ضلال أم ترى وجها يحيا



                                                                                                                                                                                                                                      قلت : هذا جار مجرى الألغاز في تصغير هذه اللفظة ، وذلك يختلف بالتصريف والعمل ، وهو أنه إذا اجتمع في آخر الاسم المصغر ثلاث ياءات [ ص: 156 ] جرى فيه خلاف بين النحاة بالنسبة إلى الحذف والإثبات وأصل المسألة تصغير " أحوى "وقد أتقنت هذه الأبيات وحررت مذاهب التصريفين فيها حين سئلت عنها في غير هذا الموضوع إذ لا يحتمله .

                                                                                                                                                                                                                                      وينسب إلى يحيى : يحيي بحذف الألف تشبيها لها بالزائد نحو : حبلي في : حبلى ، ويحيوي بالقلب لأنها أصل كألف ملهوي ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجميا ، ويحياوي بزيادة ألف قبل قلب ألفه واوا .

                                                                                                                                                                                                                                      والنداء : رفع الصوت ، يقال : نادى نداء ونداء بضم النون وكسرها ، والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم نحو : البكاء والصراخ والدعاء والرغاء . وقيل : المكسور مصدر والمضموم اسم ، ولو عكس هذا لكان أبين لموافقته نظائره من المصادر . وقال يعقوب بن السكيت : " إذا ضممت نونه قصرته وإن كسرتها مددته "وأصل المادة يدل على الرفع . ومنه المنتدى والنادي لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم . وقالت قريش : دار الندوة ، لارتفاع أصواتهم عند المشاورة والمحاورة فيها ، وفلان أندى صوتا من فلان أي : أرفع ، هذا أصله في اللغة ، وفي العرف صار ذلك لأحسنهما نغما وصوتا ، والندى : المطر ، ومنه : ندي يندى ، ويعبر به عن الجود ، كما يعبر بالمطر والغيث وأخواتهما عنه استعارة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : مصدقا حال من "يحيى " وهذه حال مقدرة ، وقال ابن عطية : [ ص: 157 ] " هي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام " . و "بكلمة " متعلق بـ "مصدقا " . وقرأ أبو السمال : "بكلمة " بكسر الكاف وسكون اللام ، وهي لغة فصيحة ، وذلك أنه أتبع الفاء للعين في حركتها فالتقى بذلك كسرتان ، فحذف الثانية لأجل الاستثقال . والكلمة قيل : المراد بها الجمع ؛ إذ المقصود التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى المنزلة ، فعبر عن الجمع ببعضه ، ومثل هذا قوله عليه السلام : " أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد " يريد قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1259 - ألا كل شيء ما خلا الله باطل     وكل نعيم لا محالة زائل



                                                                                                                                                                                                                                      وذكر لحسان رضي الله عنه الحويدرة الشاعر فقال : "لعن الله كلمته " يعني قصيدته ، وسيأتي لهذا مزيد بيان عند قوله تعالى : إلى كلمة سواء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : من الله في محل جر صفة لكملة فيتعلق بمحذوف أي : بكلمة كائنة من الله . و وسيدا وحصورا ونبيا أحوال أيضا كمصدقا . والسيد فيعل . والأصل : سيود ففعل [به ] ما فعل بميت ، وقد تقدم كيفية ذلك ، واشتقاقه من ساد يسود سيادة وسؤددا أي : فاق نظراءه في الشرف والسؤدد ، ومنه قولهم :


                                                                                                                                                                                                                                      1260 - نفس عصام سودت عصاما     وعلمته الكر والإقداما
                                                                                                                                                                                                                                      وصيرته بطلا هماما



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 158 ] وقال بعضهم : سمي سيدا لأنه يسود سواد الناس أي : عظيمهم وجلهم ، وجمعه على فعلة شاذ قياسا فصيح استعمالا ، قال تعالى : إنا أطعنا سادتنا والأصل : سودة ، و "فعلة " إنما يكثر لفاعل نحو : كافر وكفرة وفاجر وفجرة وبار وبررة .

                                                                                                                                                                                                                                      والحصور فعول للمبالغة محول من "حاصر " كضروب في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1261 - ضروب بنصل السيف سوق سمانها     إذا عدموا زادا فإنك عاقر



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : بل هو فعول بمعنى مفعول أي : محصور ، ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب . والحصور : الذي يكتم سره . قال جرير :


                                                                                                                                                                                                                                      1262 - ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا     حصرا بسرك يا أميم ضنينا



                                                                                                                                                                                                                                      [وهو البخيل أيضا ] قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1263 - ... ... ... ...     لا بالحصور ولا فيها بسأر



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم اشتقاق هذه المادة ، وأصله مأخوذ من المنع ، وذلك أن الحصور هو الذي لا يأتي النساء : إما لطبعه على ذلك وإما لمغالبته نفسه . و " من الصالحين " صفة لقوله " نبيا " فهو في محل نصب .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية