الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 336 ] سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله (تعالى): واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ؛ قال الحسن؛ ومجاهد ؛ وإبراهيم: "هو قول القائل: أسألك بالله؛ وبالرحم"؛ وقال ابن عباس ؛ وقتادة ؛ والسدي ؛ والضحاك : "اتقوا الأرحام أن تقطعوها"؛ وفي الآية دلالة على جواز المسألة بالله (تعالى)؛ وقد روى ليث عن مجاهد ؛ عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سأل بالله فأعطوه"؛ وروى معاوية بن سويد بن مقرن؛ عن البراء بن عازب قال: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بسبع"؛ منها إبرار القسم ؛ وهذا يدل على مثل ما دل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سألكم بالله فأعطوه"؛ وأما قوله: والأرحام ؛ ففيه تعظيم لحق الرحم؛ وتأكيد للنهي عن قطعها؛ قال الله (تعالى) في موضع آخر: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ؛ فقرن قطع الرحم إلى الفساد في الأرض؛ وقال (تعالى): لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ؛ قيل في الإل: إنه القربى؛ وقال (تعالى): وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعظيم حرمة الرحم ما يواطئ ما ورد به التنزيل؛ روى سفيان بن عيينة عن الزهري ؛ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ؛ عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله: (أنا الرحمن؛ وهي الرحم؛ شققت لها اسما من اسمي؛ فمن وصلها وصلته؛ ومن قطعها بتته)"؛ وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا خالي حيان بن بشر قال: حدثنا محمد بن الحسن ؛ عن أبي حنيفة قال: حدثني ناصح؛ عن يحيى بن أبي كثير ؛ عن أبي سلمة ؛ عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم؛ وما من عمل عصي الله به أعجل عقوبة من البغي؛ واليمين الفاجرة"؛ وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا خالد بن خداش قال: حدثنا صالح المري قال: حدثنا يزيد الرقاشي ؛ عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الصدقة؛ وصلة الرحم؛ يزيد الله بهما في العمر؛ ويدفع بهما ميتة السوء؛ ويدفع الله بهما المحذور والمكروه"؛ وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان ؛ عن الزهري ؛ عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ؛ عن أمه؛ أم كلثوم بنت عقبة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح"؛ قال الحميدي : الكاشح: العدو؛ ورواه أيضا [ ص: 337 ] سفيان عن الزهري ؛ عن أيوب بن بشير؛ عن حكيم بن حزام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح"؛ وروت حفصة بنت سيرين عن الرباب؛ عن سليمان بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصدقة على المسكين صدقة؛ وعلى ذي الرحم اثنتان; لأنها صدقة وصلة".

قال أبو بكر : فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم؛ واستحقاق الثواب بها؛ وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الصدقة على ذي الرحم اثنتين؛ صدقة؛ وصلة؛ وأخبر باستحقاق الثواب لأجل الرحم؛ سوى ما يستحقه بالصدقة؛ فدل على أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يصح الرجوع فيها؛ ولا فسخها أبا كان الواهب؛ أو غيره; لأنها قد جرت مجرى الصدقة في أن موضوعها القربة؛ واستحقاق الثواب بها كالصدقة؛ لما كان موضوعها القربة؛ وطلب الثواب؛ لم يصح الرجوع فيها؛ كذلك الهبة لذي الرحم المحرم ؛ ولا يصح للأب بهذه الدلالة الرجوع فيما وهبه للابن ؛ كما لا يجوز لغيره من ذوي الرحم المحرم ؛ إذ كانت بمنزلة الصدقة؛ إلا أن يكون الأب محتاجا؛ فيجوز له أخذه كسائر أموال الابن؛ فإن قيل: لم يفرق الكتاب والسنة - فيما أوجبه من صلة الرحم - بين ذي الرحم المحرم وغيره؛ فالواجب ألا يرجع فيما وهبه لسائر ذوي أرحامه؛ وإن لم يكن ذا رحم محرم؛ كابن العم والأباعد من أرحامه؛ قيل له: لو اعتبرنا كل من بينه وبينه نسب لوجب أن يشترك فيه بنو آدم - عليه السلام - كلهم; لأنهم ذوو أنسابه؛ ويجمعهم نوح النبي - عليه السلام - وقبله آدم - عليه السلام -؛ وهذا فاسد؛ فوجب أن تكون الرحم التي يتعلق بها هذا الحكم هي ما يمنع عقد النكاح بينهما؛ إذا كان أحدهما رجلا؛ والآخر امرأة; لأن ما عدا ذلك لا يتعلق به حكم؛ وهو بمنزلة الأجنبيين؛ وقد روى زياد بن علاقة؛ عن أسامة بن شريك قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب بمنى؛ وهو يقول: "أمك؛ وأباك؛ وأختك؛ وأخاك؛ ثم أدناك فأدناك"؛ فذكر ذوي الرحم المحرم في ذلك؛ فدل على صحة ما ذكرنا؛ وهو مأمور مع ذلك بمن بعد رحمه أن يصلها؛ وليس في تأكيد من قرب؛ كما يؤمر بالإحسان إلى الجار؛ ولا يتعلق بذلك حكم في التحريم؛ ولا في منع الرجوع في الهبة؛ فكذلك ذوو رحمه الذين ليسوا بمحرم؛ فهو مندوب إلى الإحسان إليهم؛ ولكنه لما لم يتعلق به حكم التحريم كانوا بمنزلة الأجنبيين؛ والله أعلم بالصواب.

التالي السابق


الخدمات العلمية