الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ما يقطع فيه وما لا يقطع [ ص: 364 ]

( ولا قطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الإسلام كالخشب والحشيش والقصب والسمك والطير والصيد والزرنيخ والمغرة والنورة ) والأصل فيه حديث { عائشة قالت : كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام في الشيء التافه } ، أي الحقير ، وما يوجد جنسه مباحا ، في الأصل بصورته غير مرغوب فيه حقير تقل الرغبات فيه [ ص: 365 ] والطباع لا تضن به ، فقلما يوجد أخذه على كره من المالك فلا حاجة إلى شرع الزاجر ، ولهذا لم يجب القطع في سرقة ما دون النصاب ولأن الحرز فيها ناقص ; ألا يرى أن الخشب يلقى على الأبواب وإنما يدخل في الدار للعمارة لا للإحراز والطير يطير والصيد يفر وكذا الشركة العامة التي كانت فيه وهو على تلك الصفة تورث الشبهة ، والحد يندرئ بها . ويدخل في السمك المالح والطري ، وفي الطير الدجاج والبط والحمام لما ذكرنا ولإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام { لا قطع في الطير } [ ص: 366 ] وعن أبي يوسف أنه يجب القطع في كل شيء إلا الطين والتراب والسرقين وهو قول الشافعي ، والحجة عليهما ما ذكرنا .

التالي السابق


( باب ما يقطع فيه وما لا يقطع )

ما يقطع فيه هو المسروق ، وهو متعلق السرقة إذ هو محلها : فهو ثان بالنسبة إلى نفس الفعل فلذا أخره عن [ ص: 364 ] بيان السرقة وما يتصل بها ( قوله لا قطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الإسلام ) أي إذا سرق من حرز لا شبهة فيه بعد أن أخذ وأحرز وصار مملوكا .

التافه والتفه : الحقير الخسيس من باب لبس ( كالخشب والحشيش والقصب والسمك والطير والصيد ) بريا أو بحريا ( والزرنيخ والمغرة ) وهو بفتح الغين المعجمة : الطين الأحمر ويجوز إسكانها ( والنورة ) ( قوله الأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها ) هو ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه . ومسنده : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة قالت { : لم يكن السارق يقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه } . زاد في مسنده : { ولم يقطع في أدنى من ثمن حجفة أو ترس } .

ورواه مرسلا أيضا : حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه ، وكذا رواه عبد الرزاق في مصنفه : أخبرنا ابن جريج عن هشام به ، وكذا إسحاق بن راهويه . أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام ، ورواه ابن عدي في الكامل مسندا أخرجه عن عبد الله بن قبيصة الفزاري عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة ، ولم يقل في عبد الله هذا شيئا إلا أنه قال لم يتابع عليه ، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما فذكرته لأبين أن في رواياته نظرا ، ولا يخفى أن هذه المرسلات كلها حجة ، وقد تقدم وصله من حديث ابن أبي شيبة ومتابعة عبد الرحيم بن سليمان ، وإذا عرف هذا قال المصنف ( ما يوجد جنسه مباحا في الأصل بصورته ) أي الأصلية بأن لم تحدث فيه صنعة متقومة ( غير مرغوب فيه حقير ) فيكون متناول النص فلا يقطع بالحديث المذكور والكتاب مخصوص بقاطع فجاز مطلقا وقوله ( بصورته ) ليخرج الأبواب والأواني والخشب .

و ( غير مرغوب فيه ) ليخرج نحو المعادن من الذهب والفضة والصفر واليواقيت واللؤلؤ ونحوها من الأحجار لكونها مرغوبا فيها فيقطع في كل ذلك . وعلى هذا نظر بعضهم في الزرنيخ فقال : ينبغي أن يقطع به لأنه يحرز ويصان في دكاكين العطارين كسائر الأموال بخلاف الخشب ، لأنه إنما يدخل الدور للعمارة فكان إحرازه ناقصا ، بخلاف الساج والأبنوس . واختلف في الوسمة والحناء والوجه القطع لأنه جرت العادة بإحرازه في الدكاكين .

وقوله ( تقل الرغبات فيه ) يعني فلا تتوفر الدواعي على استحصاله وعلى المعالجة [ ص: 365 ] في التوصل إليه ( ولا تضن به الطباع ) إذا أحرز ، حتى إنه ( قلما يوجد أخذه على كره من المالك ) ولا ينسب إلى الجناية بناء على أن الضنة بها تعد من الخساسة . وما هو كذلك لا يحتاج إلى شرع الزاجر فيه كما دون النصاب . قال المصنف ( ولأن الحرز فيه ناقص ) فإن الخشب بصورته الأولى يلقى على الأبواب ، وإنما يدخل في الدار للعمارة لا للإحراز ، وذلك في زمانهم . وأما في زماننا فيحرز في دكاكين التجار .

قال ( والطير يطير ) يعني من شأنه ذلك وبذلك تقل الرغبات فيه . والوجه أن قوله والطير يطير من بيان نقصان الحرز إلا أن هذا الوجه قاصر عن جميع صور الدعوى ( وكذا الشركة العامة التي كانت فيه ) أي في الصيد قبل الإحراز بقوله عليه الصلاة والسلام { الصيد لمن أخذه } ( وهو ) حال كونه ( على تلك الصفة ) أي الأصلية ( تورث ) الشركة العامة فيه ( شبهة ) بعد الإحراز فيمتنع القطع . والوجه أن يحمل على أن الشبهة العامة الثابتة في الكل بالإباحة لأصلها ثابتة بالإجماع ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام { الناس شركاء في ثلاثة } فإنما يتناول الحشيش والقصب بلفظ الكلإ ففيه قصور أيضا . قال ( ويدخل في السمك المالح والطري ) وصوابه السمك المليح أو المملوح ( وفي الطير الدجاج والبط والحمام لما ذكرنا ) يعني قوله والطير يطير فيقل إحرازه عنه .

وأما قوله ( ولإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم { لا قطع في الطير } ) فحديث لا يعرف رفعه ، بل رواه عبد الرزاق بسند فيه جابر الجعفي عن عبد الله بن يسار ، قال : أتي عمر بن عبد العزيز برجل سرق دجاجة فأراد أن يقطعه . فقال له سلمة بن عبد الرحمن قال عثمان : لا قطع في الطير ، ورواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي عن زهير بن محمد عن يزيد بن خصيفة قال : أتي عمر بن عبد العزيز برجل قد سرق طيرا فاستفتى في ذلك السائب بن يزيد ، فقال : ما رأيت أحدا قطع في الطير ، وما عليه في ذلك قطع ، فتركه عمر . فإن كان هذا مما لا مجال للرأي فيه فحكمه حكم السماع ، وإلا فتقليد الصحابي عندنا [ ص: 366 ] واجب لما عرف .

( قوله وعن أبي يوسف أنه يجب القطع في كل شيء إلا الطين والتراب والسرقين ) وروي عنه إلا في الماء والتراب والطين والجص والمعازف والنبيذ ، لأن ما سوى هذه أموال متقومة محرزة فصارت كغيرها ، والإباحة الأصلية زالت وزال أثرها بالإحراز بعد التملك ( وهو قول الشافعي والحجة عليهما ما ذكرنا ) من حديث عائشة وثبوت الشبهة .




الخدمات العلمية