الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 85 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ( 80 ) فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ( 81 ) )

يقول تعالى ذكره : وأما الغلام ، فإنه كان كافرا ، وكان أبواه مؤمنين ، فعلمنا أنه يرهقهما : يقول : يغشيهما طغيانا ، وهو الاستكبار على الله ، وكفرا به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وقد ذكر ذلك في بعض الحروف . وأما الغلام فكان كافرا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : "وأما الغلام فكان كافرا" في حرف أبي ، وكان أبواه مؤمنين ( فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ) .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ) وكان كافرا في بعض القراءة . وقوله : ( فخشينا ) وهي في مصحف عبد الله : " فخاف ربك أن يرهقهما طغيانا وكفرا"

حدثنا عمرو بن علي ، قال : ثنا أبو قتيبة ، قال : ثنا عبد الجبار بن عباس الهمداني ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا " . والخشية والخوف توجههما العرب إلى معنى الظن ، وتوجه هذه الحروف إلى معنى العلم بالشيء الذي يدرك من غير جهة الحس والعيان . وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته .

وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : معنى قوله ( خشينا ) في هذا الموضع : كرهنا ، لأن الله لا يخشى . وقال في بعض القراءات : فخاف ربك ، قال : وهو مثل خفت الرجلين أن يعولا وهو لا يخاف من ذلك أكثر من أنه يكرهه لهما .

وقوله : ( فأردنا أن يبدلهما ربهما ) : اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه جماعة من قراء المكيين المدنيين والبصريين : ( فأردنا أن يبدلهما ربهما ) . وكان [ ص: 86 ] بعضهم يعتل لصحة ذلك بأنه وجد ذلك مشددا في عامة القرآن ، كقول الله عز وجل : ( فبدل الذين ظلموا ) وقوله ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) فألحق قوله : ( فأردنا أن يبدلهما ربهما ) وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : ( فأردنا أن يبدلهما ) بتخفيف الدال . وكان بعض من قرأ ذلك كذلك من أهل العربية يقول : أبدل يبدل بالتخفيف وبدل يبدل بالتشديد : بمعنى واحد .

والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . وقيل : إن الله عز وجل أبدل أبوي الغلام الذي قتله صاحب موسى منه بجارية .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، قال : ثنا المبارك بن سعيد ، قال : ثنا عمرو بن قيس في قوله : ( فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ) قال : بلغني أنها جارية .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، أخبرني سليمان بن أمية أنه سمع يعقوب بن عاصم يقول : أبدلا مكان الغلام جارية .

قال : ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن عثمان بن خشيم ، أنه سمع سعيد بن جبير يقول : أبدلا مكان الغلام جارية .

وقال آخرون : أبدلهما ربهما بغلام مسلم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن أبي [ ص: 87 ] جريج ( فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ) قال : كانت أمه حبلى يومئذ بغلام مسلم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، أنه ذكر الغلام الذي قتله الخضر ، فقال : قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب .

وقوله : ( خيرا منه زكاة ) يقول : خيرا من الغلام الذي قتله صلاحا ودينا .

كما حدثنا القاسم ، ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ( فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة ) قال : الإسلام .

وقوله : ( وأقرب رحما ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وأقرب رحمة بوالديه وأبر بهما من المقتول .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة ( وأقرب رحما ) : أبر بوالديه .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وأقرب رحما ) ، أي أقرب خيرا .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأقرب أن يرحمه أبواه منهما للمقتول .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ( وأقرب رحما ) أرحم به منهما بالذي قتل الخضر .

وكان بعض أهل العربية يتأول ذلك : وأقرب أن يرحماه ، والرحم : مصدر رحمت ، يقال : رحمته رحمة ورحما . وكان بعض البصريين يقول : من الرحم والقرابة . وقد يقال : رحم ورحم مثل عسر وعسر ، وهلك وهلك ، واستشهد لقوله ذلك ببيت العجاج :


ولم تعوج رحم من تعوجا



ولا وجه للرحم في هذا الموضع ، لأن المقتول كان الذي أبدل الله منه والديه ولدا لأبوي المقتول ، فقرابتهما من والديه ، وقربهما منه في الرحم سواء . وإنما معنى ذلك : وأقرب من المقتول أن يرحم والديه فيبرهما كما قال قتادة : وقد يتوجه الكلام إلى أن يكون معناه . وأقرب أن يرحماه ، غير أنه لا قائل من أهل تأويل تأوله كذلك ، فإذ لم يكن فيه قائل ، فالصواب فيه ما قلنا لما بينا .

التالي السابق


الخدمات العلمية