الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ( 83 ) ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا 84 ( 84 ) فأتبع سببا ( 85 ) ) [ ص: 92 ]

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ويسألك يا محمد هؤلاء المشركون عن ذي القرنين ما كان شأنه ، وما كانت قصته ، فقل لهم : سأتلو عليكم من خبره ذكرا يقول : سأقص عليكم منه خبرا . وقد قيل : إن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر ذي القرنين ، كانوا قوما من أهل الكتاب .

فأما الخبر بأن الذين سألوه عن ذلك كانوا مشركي قومه فقد ذكرناه قبل .

وأما الخبر بأن الذين سألوه ، كانوا قوما من أهل الكتاب ، فحدثنا به أبو كريب . قال : ثنا زيد بن حباب عن ابن لهيعة ، قال : ثني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن شيخين من تجيب ، قال : أحدهما لصاحبه : انطلق بنا إلى عقبة بن عامر نتحدث ، قالا فأتياه فقالا جئنا لتحدثنا ، فقال : "كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت من عنده ، فلقيني قوم من أهل الكتاب ، فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأذن لنا عليه ، فدخلت عليه ، فأخبرته ، فقال : ما لي وما لهم ، ما لي علم إلا ما علمني الله" ، ثم قال : اسكب لي ماء ، فتوضأ ثم صلى ، قال : فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ، ثم قال : "أدخلهم علي ، ومن رأيت من أصحابي فدخلوا فقاموا بين يديه ، فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا ، وإن شئتم أخبرتكم ، قالوا : بلى أخبرنا ، قال : جئتم تسألوني عن ذي القرنين ، وما تجدونه في كتابكم : كان شابا من الروم ، فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية ، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء ، فقال له ما ترى؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن ، ثم علا به ، فقال : ما ترى؟ فقال : أرى مدينتي ، ثم علا به فقال : ما ترى؟ قال : أرى الأرض ، قال : فهذا اليم محيط بالدنيا ، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل ، وتثبت العالم ، فأتى به السد ، وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء ، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج ، ثم مضى به إلى أمة أخرى ، وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج ، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ، ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم " . [ ص: 93 ]

واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لذي القرنين : ذو القرنين ، فقال بعضهم :

قيل له ذلك من أجل أنه ضرب على قرنه فهلك ، ثم أحيي فضرب على القرن الآخر فهلك .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن عبيد المكتب ، عن أبي الطفيل ، قال : سأل ابن الكواء عليا عن ذي القرنين ، فقال : هو عبد أحب الله فأحبه ، وناصح الله فنصحه ، فأمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه فقتلوه ، ثم بعثه الله ، فضربوه على قرنه فمات .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل ، قال : سئل علي رضوان الله عليه عن ذي القرنين ، فقال : كان عبدا ناصح الله فناصحه ، فدعا قومه إلى الله ، فضربوه على قرنه فمات ، فأحياه الله ، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ، فسمي ذا القرنين .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبى بزة ، عن أبي الطفيل ، قال : سمعت عليا وسألوه عن ذي القرنين أنبيا كان؟ قال : كان عبدا صالحا ، أحب الله ، فأحبه الله ، وناصح الله فنصحه ، فبعثه الله إلى قومه ، فضربوه ضربتين في رأسه ، فسمي ذا القرنين ، وفيكم اليوم مثله .

وقال آخرون في ذلك بما حدثني به محمد بن سهل البخاري ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل ، قال : قال وهب بن منبه : كان ذو القرنين ملكا ، فقيل له : فلم سمي ذا القرنين؟ قال : اختلف فيه أهل الكتاب . فقال بعضهم : ملك الروم وفارس . وقال بعضهم : كان في رأسه شبه القرنين .

وقال آخرون : إنما سمي ذلك لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة . قال : ثني ابن أبي إسحاق . قال : ثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني ، قال : إنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس .

وقوله : ( إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ) يقول : إنا وطأنا له في الأرض ، ( وآتيناه من كل شيء سببا ) يقول وآتيناه من كل شيء ، [ ص: 94 ] يعني ما يتسبب إليه وهو العلم به .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( وآتيناه من كل شيء سببا ) يقول : علما .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( وآتيناه من كل شيء سببا ) أي علما .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وآتيناه من كل شيء سببا ) قال : من كل شيء علما . .

- حدثنا القاسم ، قال ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله ( وآتيناه من كل شيء سببا ) قال : علم كل شيء .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( وآتيناه من كل شيء سببا ) علما .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( وآتيناه من كل شيء سببا ) يقول : علما .

وقوله : ( فأتبع سببا ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة ، فاتبع بوصل الألف ، وتشديد التاء ، بمعنى : سلك وسار ، من قول القائل : اتبعت أثر فلان : إذا قفوته ; وسرت وراءه . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة ( فأتبع ) بهمز الألف ، وتخفيف التاء ، بمعنى لحق .

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب : قراءة من قرأه ( فاتبع ) بوصل الألف ، وتشديد التاء ، لأن ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن مسير ذي القرنين في الأرض التي مكن له فيها ، لا عن لحاقه السبب ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس " فاتبع سببا" يعني بالسبب ، المنزل .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني [ ص: 95 ] الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( سببا ) قال : منزلا وطريقا ما بين المشرق والمغرب .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد " فاتبع سببا" قال : طريقا في الأرض .

حدثنا بشر ، قال : يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " فاتبع سببا" : اتبع منازل الأرض ومعالمها .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله "فاتبع سببا " قال : هذه الآن سبب الطرق كما قال فرعون ( يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات ) قال : طرق السماوات .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : " فاتبع سببا" قال : منازل الأرض .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله " فاتبع سببا " قال : المنازل .

التالي السابق


الخدمات العلمية