الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا ( 96 ) فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ( 97 ) ) [ ص: 114 ]

يقول عز ذكره : قال ذو القرنين للذين سألوه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدا ( آتوني ) أي جيئوني بزبر الحديد ، وهي جمع زبرة ، والزبرة : القطعة من الحديد .

كما حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( زبر الحديد ) يقول : قطع الحديد .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( آتوني زبر الحديد ) قال : قطع الحديد .

حدثني إسماعيل بن سيف ، قال : ثنا علي بن مسهر ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قوله : ( زبر الحديد ) قال : قطع الحديد .

حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى عن مجاهد ، قوله ( آتوني زبر الحديد ) قال : قطع الحديد .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( آتوني زبر الحديد ) أي فلق الحديد .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( آتوني زبر الحديد ) قال : قطع الحديد .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( آتوني زبر الحديد ) قال : قطع الحديد .

وقوله ( حتى إذا ساوى بين الصدفين ) يقول عز ذكره : فآتوه زبر الحديد ، فجعلها بين الصدفين حتى إذا ساوى بين الجبلين بما جعل بينهما من زبر الحديد ، ويقال : سوى .

والصدفان : ما بين ناحيتي الجبلين ورءوسهما ، ومنه قول الراجز :


قد أخذت ما بين عرض الصدفين ناحيتيها وأعالي الركنين

[ ص: 115 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( بين الصدفين ) يقول : بين الجبلين .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( حتى إذا بلغ بين السدين ) قال : هو سد كان بين صدفين ، والصدفان : الجبلان .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى "ح" ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( الصدفين ) رءوس الجبلين .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( بين الصدفين ) يعني الجبلين ، وهما من قبل أرمينية وأذربيجان .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( حتى إذا ساوى بين الصدفين ) وهما الجبلان .

حدثني أحمد بن يوسف ، قال : أخبرنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم أنه قرأها ( بين الصدفين ) منصوبة الصاد والدال ، وقال : بين الجبلين ، وللعرب في الصدفين : لغات ثلاث ، وقد قرأ بكل واحدة منها [ ص: 116 ] جماعة من القراء :

الفتح في الصاد والدال ، وذلك قراءة عامة قراء أهل المدينة والكوفة ، والضم فيهما ، وهي قراءة أهل البصرة ، والضم في الصاد وتسكين الدال ، وذلك قراءة بعض أهل مكة والكوفة ، والفتح في الصاد والدال أشهر هذه اللغات ، والقراءة بها أعجب إلي ، وإن كنت مستجيزا القراءة بجميعها ، لاتفاق معانيها . وإنما اخترت الفتح فيهما لما ذكرت من العلة .

وقوله ( قال انفخوا ) يقول عز ذكره ، قال للفعلة : انفخوا النار على هذه الزبر من الحديد .

وقوله : ( حتى إذا جعله نارا ) وفي الكلام متروك ، وهو فنفخوا ، حتى إذا جعل ما بين الصدفين من الحديد نارا ( قال آتوني أفرغ عليه قطرا ) فاختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة ، وبعض أهل الكوفة ( قال آتوني ) بمد الألف من ( آتوني ) بمعنى : أعطوني قطرا أفرغ عليه . وقرأه بعض قراء الكوفة ، قال ( ائتوني ) بوصل الألف ، بمعنى : جيئوني قطرا أفرغ عليه ، كما يقال : أخذت الخطام ، وأخذت بالخطام ، وجئتك زيدا ، وجئتك بزيد . وقد يتوجه معنى ذلك إذا قرئ كذلك إلى معنى أعطوني ، فيكون كأن قارئه أراد مد الألف من آتوني ، فترك الهمزة الأولى من آتوني ، وإذا سقطت الأولى همز الثانية .

وقوله : ( أفرغ عليه قطرا ) يقول : أصب عليه قطرا ، والقطر : النحاس .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( أفرغ عليه قطرا ) قال : القطر : النحاس .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله . [ ص: 117 ]

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( أفرغ عليه قطرا ) يعني النحاس .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( أفرغ عليه قطرا ) أي النحاس ليلزمه به .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( أفرغ عليه قطرا ) قال : نحاسا .

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : القطر : الحديد المذاب ، ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر :


حساما كلون الملح صاف حديده     جزارا من أقطار الحديد المنعت



وقوله : ( فما اسطاعوا أن يظهروه ) يقول عز ذكره :

فما اسطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا الردم الذي جعله ذو القرنين حاجزا بينهم ، وبين من دونهم من الناس ، فيصيروا فوقه وينزلوا منه إلى الناس .

يقال منه : ظهر فلان فوق البيت : إذا علاه ، ومنه قول الناس : ظهر فلان على فلان : إذا قهره وعلاه ( وما استطاعوا له نقبا ) يقول : ولم يستطيعوا أن ينقبوه من أسفله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( فما اسطاعوا أن يظهروه ) من قوله ( وما استطاعوا له نقبا ) أي من أسفله .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( فما اسطاعوا أن يظهروه ) قال : ما استطاعوا أن ينزعوه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، [ ص: 118 ] عن قتادة ( فما اسطاعوا أن يظهروه ) قال : أن يرتقوه ( وما استطاعوا له نقبا )

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، ( فما استطاعوا أن يظهروه ) قال : أن يرتقوه ( وما استطاعوا له نقبا )

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ( فما اسطاعوا أن يظهروه ) قال : يعلوه ( وما استطاعوا له نقبا ) أي ينقبوه من أسفله .

واختلف أهل العربية في وجه حذف التاء من قوله : ( فما اسطاعوا ) فقال بعض نحويي البصرة : فعل ذلك لأن لغة العرب أن تقول : اسطاع يسطيع ، يريدون بها : استطاع يستطيع ، ولكن حذفوا التاء إذا جمعت مع الطاء ومخرجهما واحد . قال : وقال بعضهم : استاع ، فحذف الطاء لذلك . وقال بعضهم : أسطاع يسطيع ، فجعلها من القطع كأنها أطاع يطيع ، فجعل السين عوضا من إسكان الواو . وقال بعض نحويي الكوفة : هذا حرف استعمل فكثر حتى حذف .

التالي السابق


الخدمات العلمية