الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كتاب أسرار الحج .

بسم الله الرحمن الرحيم .

الحمد لله الذي جعل كلمة التوحيد لعباده حرزا وحصنا وجعل البيت العتيق مثابة للناس وأمنا وأكرمه بالنسبة إلى نفسه تشريفا وتحصينا ومنا وجعل زيارته والطواف به حجابا بين العبد وبين العذاب ومجنا والصلاة على محمد نبي الرحمة وسيد الأمة وعلى آله وصحبه قادة الحق وسادة الخلق وسلم تسليما . كثيرا .

أما بعد فإن الحج من بين أركان الإسلام ومبانيه عبادة العمر وختام الأمر وتمام الإسلام وكمال الدين فيه أنزل الله عز وجل اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا وفيه قال صلى الله عليه وسلم من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا فأعظم بعبادة يعدم الدين بفقدها الكمال ويساوي تاركها اليهود والنصارى في الضلال وأجدر بها أن تصرف العناية إلى شرحها وتفصيل أركانها وسننها وآدابها وفضائلها وأسرارها .

وجملة ذلك ينكشف بتوفيق الله عز وجل في ثلاثة أبواب :

الباب الأول : في فضائلها وفضائل ، مكة والبيت العتيق وجمل أركانها وشرائط وجوبها .

الباب الثاني : في أعمالها الظاهرة على الترتيب من مبدأ السفر إلى الرجوع .

الباب الثالث : في آدابها الدقيقة وأسرارها الخفية وأعمالها الباطنة

التالي السابق


بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .

الحمد لله الذي جعل الحج إلى بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام ، وختم به عمد الدين المتين فكان سمة دالة على براعة المطلع وحسن الختام ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على مولانا وسيدنا محمد شمس الظلام ، الشفيع يوم الزحام ، الهادي أمته إلى طرق الإرشاد السالمة من الشكوك والأوهام ، وعلى آله الأئمة الأعلام ، وأصحابه المرضيين الكرام ، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى بعد القيام ، أما بعد :

فهذا شرح (كتاب أسرار الحج)

وهو سابع كتاب من الربع الأول من إحياء علوم الدين للإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي -رضي الله عنه- يبين من فوائده ما أجمل ، ويوضح من مسائله ما أشكل ، ويعرب من مهماته ما أغلق ، ويقيد من تقييداته ما أطلق ، شرح يشرح بحسن وضعه صدور ذوي الألباب ، ويفتح للمسترشدين لطرق الحق باب الصواب ، ذكرت فيه ما يختص به من الكشف عن الأفعال الظاهرة المشروعة في العموم والخصوص على السنة- علماء الرسوم بالظواهر وأتبعته من الاعتبارات المختصة به في أحوال الباطن بلسان التقريب والاختصار والإشارة والإيماء طبق ما سبق في الأبواب المتقدمة سائلا من الله تفريج كربي ، قائلا الله حسبي ، إنه للداعين مجيب ، وله في كل لحظة فرج قريب .

قال المصنف رحمه الله تعالى : في أول كتابه (بسم الله الرحمن الرحيم) أي : بكل اسم للذات الأقدس لا لغيره ملتبسا للتبرك أبتدئ و"الله " علم للذات الجامعة لسائر صفات الكمال ، وما بعده صفتان له أي : الموصوف بكمال الإحسان بجميع النعم أصولها وفروعها جلائلها ودقائقها أو بإرادة ذلك فرفعهما صفة فعل وذات وأصلهما واحد لكونهما من الرحمة ولما كان المقام مقام تعظيم واللائق به التصريح لم يكتف بالتسمية وقال (الحمد لله) لأن من اقتصر على التسمية لا يسمى حامدا ومن ثم وقع التدافع ظاهرا بين حديثي الابتداء واحتيج التوفيق بما ذكر في أوائل الكتب المتقدمة (الذي) بمحض منته (جعل كلمة التوحيد) وهي لا إله إلا الله (لعباده) المضافين عليه (حرزا) حريزا (وحصنا) منيعا لمن احتمى به عن نكاية الأعداء الظاهرة والباطنة وفيه تلميح بالحديث الذي ورد من طريق أهل البيت : "لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي " ، وقد تقدم ذلك .

(وجعل البيت العتيق) وهو الكعبة سمي عتيقا لشرفه أو لكونه قديما أو لأن الله أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار وقد روي ذلك مرفوعا من حديث ابن الزبير أخرجه سعيد بن منصور ، أو لأنه لم يملك قط قاله مجاهد ولأنه أعتق من الغرق زمن الطوفان قاله ابن سائب (مثابة) [ ص: 267 ] مرجعا (للناس) يثوبون إليه (وأمنا) يأمنون به من المخلوف وفيه اقتباس من قوله : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا (وأكرمه بالنسبة إلى نفسه) حيث سماه بيت الله (تشريفا) لقدره (وتخصيصا) له بتلك النسبة (ومنا) أي : فضلا (وجعل زيارته) بالقصد إليه (والطواف به) حوله (حجابا بين العبد الزائر والطائف به وبين العذاب) الأبدي (ومجنا) بكسر الميم أي : ترسا من جن عليه إذا ستره وسمي الترس بذلك لأن صاحبه يتستر والجمع المجان .

(والصلاة) الكاملة (على) سيدنا (محمد نبي الرحمة) المفاضة على العالمين (وسيد الأمة) بالسيادة المطلقة على الكل من الأزل ، والأمة : بالضم كل جماعة يجمعها أمر ما : دين أو زمن أو مكان واحد وسواء كان الأمر الجامع تسخيرا أو اختيارا أو هما من جملة أسمائه الشريفة ذكرهما ابن دحية في المستوفي وسيأتي ذكرهما في الدعوات (وعلى آله وصحبه قادة الحق) جمع قائد من قاد الجيش إذا سار به (وسادة الخلق) أي : رؤسائهم بسبب قربهم منه -صلى الله عليه وسلم- ومشاهدتهم له (وسلم) عليه وعليهم تسليما (كثيرا أما بعد فإن الحج) لبيت الله الحرام (من بين أركان الإسلام) الخمسة (ومبانيه) التي بني عليها كما في حديث ابن عمر في الصحيحين : بني الإسلام على خمس : . . . (عبادة العمر) إذ وجوبه على المكلف مرة واحدة بخلاف غيره من باقي الأركان كما سيأتي قريبا (وختام الأمر) إذ ختم به باقي الأركان (وتمام الإسلام) أي : وفاؤه (وكمال الدين) فانتهي به إلى غاية ليس وراءها مزيد من كل وجه (وفيه أنزل الله تعالى قوله) والنبي -صلى الله عليه وسلم- واقف بعرفة يوم الجمعة في حجة الوداع : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) وسيأتي الكلام على هذه الآية والقصة قريبا (وفيه قال النبي -صلى الله عليه وسلم- من مات ولم يحج ) أي : مع إمكانه أو مات عن عدم الإمكان بعد وجوده كان عاصيا لله تعالى من حين أمكنه إلى حين موته ولم يكن كامل الإسلام لأن الله سبحانه أكمل الإسلام بالحج وإليه الإشارة من باب التغليظ والزجر بقوله : (فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا) .

قال العراقي : رواه ابن عدي من حديث أبي هريرة والترمذي نحوه وقال : في إسناده مقال . أهـ .

قلت : قد روي هذا الحديث عن أبي أمامة أيضا ولفظه عند الدارمي والبيهقي : "من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات ولم يحج . . . " والباقي سواء وعن سعيد بن منصور وأبي يعلى "من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج . . . " الحديث ، وعند صاحب القوت : "من لم يمنعه من الحج مرض قاطع أو سلطان جائر ومات ولم يحج فلا يبالي مات يهوديا أو نصرانيا " وعند أحمد والبيهقي أيضا : "من كان ذا يسار فمات ولم يحج . . . " والباقي مثل سياق المصنف وأما حديث علي عند الترمذي فقد روي مرفوعا وموقوفا ولفظه : "من ملك زادا أو راحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، وقال الترمذي : ضعيف وأخرجه ابن جرير والبيهقي كذلك والموقوف إسناده حسن ، وقال المنذري : طريق أبي أمامة على ما فيها أصلح من هذه (فأعظم بعبادة يعدم الدين بفقدها) صفة (الكمال ويساوي تاركها) بلا عذر (اليهودي والنصراني) وفي نسخة اليهود والنصارى (في الضلال) أي : الغواية والخسران (وأجدر بها) أي : أليق (أن تصرف العناية) أي : الاهتمام وفي بعض النسخ وأجدر بنا أن نصرف العناية (إلى شرحها) وبيانها (وتفصيل أركانها) التي عليها مدارها (وسننها وآدابها وفضائلها وأسرارها وجملة ذلك ينكشف بتوفيق الله عز وجل) وعونه (في ثلاثة أبواب :

الباب الأول : في فضائلها ، وفضل مكة والبيت العتيق وجمل من أركانها وشرائط وجوبها .

الباب الثاني : في أعمالها الظاهرة على الترتيب من مبدأ السفر) أي : الخروج من الوطن (إلى الرجوع) إليه .

(الباب الثالث : في) ذكر (آدابها الدقيقة وأسرارها الخفية وأعمالها الباطنة) وهي التي تنبغي مراعاتها لأهل القلوب .




الخدمات العلمية