الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى:

وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما

قال جمهور المفسرين: معنى هذه الآية: وما كان في إذن الله، وفي أمره للمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول، وهو الذي تكون فيه "إلا" بمعنى "لكن"، والتقدير: لكن الخطأ قد يقع، وهذا كقول الشاعر :


أمسى سقام خلاء لا أنيس به إلا السباع ومر الريح بالغرف



[ ص: 627 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

سقام: اسم واد، والغرف شجر يدبغ بلحائه. وكما قال جرير:


من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ     على الأرض إلا ذيل مرط مرحل



وفي هذا الشاهد نظر.

ويتجه في معنى الآية وجه آخر، وهو أن تقدر "كان" بمعنى: استقر ووجد، كأنه قال: وما وجد ولا تقرر ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، إذ هو مغلوب فيه أحيانا، فيجيء الاستثناء -على هذا- غير منقطع، وتتضمن الآية -على هذا- إعظام العمد وبشاعة شأنه، كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا، إعظاما للعمد والقصد مع خطر الكلام به البتة.

وقرأ الزهري "خطا" مقصورا غير مهموز، وقرأ الحسن والأعمش مهموزا ممدودا. وقال مجاهد، وعكرمة: نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي حين قتل الحارث بن يزيد بن نبيشة، وذلك، أنه كان يعذبه بمكة، ثم أسلم الحارث وجاء مهاجرا فلقيه عياش بالحرة، فظنه على كفره فقتله، ثم جاء فأخبر النبي عليه الصلاة [ ص: 628 ] والسلام فشق ذلك عليه ونزلت الآية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم فحرر".

وقال ابن زيد:

نزلت في رجل قتله أبو الدرداء، كان يرعى غنما وهو يتشهد فقتله وساق غنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ونزلت الآية.

وقيل: نزلت في أبي حذيفة اليماني حين قتل خطأ يوم أحد، وقيل غير هذا، والله أعلم.

وقوله تعالى: ومن قتل مؤمنا الآية. بين الله تعالى في هذه الآية حكم المؤمن إذا قتل المؤمن خطأ، وحقيقة الخطإ ألا يقصده بالقتل، ووجوه الخطإ كثيرة لا تحصى، يربطها عدم القصد، قال ابن عباس، والحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وغيرهم: الرقبة المؤمنة هي الكبيرة التي قد صلت وعلقت الإيمان، ولا يجزئ في ذلك الصغير، وقال عطاء بن أبي رباح: يجزئ كل من يحكم له بحكم الإسلام في الصلاة عليه إن مات ودفنه، قال مالك: ومن صلى وصام أحب إلي، وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكثير كقطع اليدين، أو الرجلين، أو الأعمى لا يجزئ فيما حفظت، فإن كان النقصان يسيرا تتفق له معه المعيشة والتحرف كالعرج ونحوه ففيه قولان.

و"مسلمة" معناه: مؤداة مدفوعة، وهي على العاقلة فيما جاز ثلث الدية، و"إلا أن يصدقوا" يريد أولياء القتيل. وقرأ أبي بن كعب: "يتصدقوا"، وقرأ الحسن، وأبو عبد الرحمن، وعبد الوارث عن أبي عمرو: "تصدقوا" بالتاء على [ ص: 629 ] المخاطبة للحاضر، وقرأ نبيح العنزي "تصدقوا" بالتاء وتخفيف الصاد. والدية: مائة من الإبل على أهل الإبل عند قوم، وعند آخرين: على الناس كلهم، إلا ألا يجد الإبل أهل الذهب والفضة، فحينئذ ينتقلون إلى الذهب والفضة، يعطون منها قيمة الإبل في وقت النازلة بالغة ما بلغت، واختلف في المائة من الإبل، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هي مربعة، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون. وقال عبد الله بن مسعود: مخمسة، عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكرا. ولبعض الفقهاء غير هذا الترتيب، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه "وغيره" يرى الدية من البقر مائتي بقرة، ومن الغنم ألفي شاة، ومن الحلل مائة حلة، وورد بذلك حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في مصنف أبي داود. والحلة: ثوبان من نوع واحد في كلام العرب، وكانت في ذلك الزمن صفة تقاوم المائة من الإبل فمضى القول على ذلك، وأما الذهب فهي ألف دينار، قررها عمر رضي الله عنه، ومشى الناس عليها، وأما الفضة فقررها عمر رضي الله عنه اثني عشر ألفا، وبه قال مالك، وجماعة تقول: عشرة آلاف درهم.

وقوله تعالى: فإن كان من قوم عدو لكم الآية، المعنى عند ابن عباس، وقتادة، والسدي، وإبراهيم، وعكرمة، وغيرهم: فإن كان هذا المقتول خطأ رجلا مؤمنا قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم، فلا دية فيه، وإنما كفارته تحرير [ ص: 630 ] الرقبة، والسبب عندهم في نزولها أن جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تمر بقبائل الكفار فربما قتل من قد آمن ولم يهاجر، أو من قد هاجر ثم رجع إلى قومه فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار، فنزلت الآية، وتسقط الدية عند قائلي هذه المقالة لوجهين: أولهما أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع الدية إليهم يتقوون بها، والآخر أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية فيه، واحتجوا بقوله تعالى: والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وقالت فرقة: بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط، فسواء كان القتيل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه لم يهاجر، أو هاجر ثم رجع إلى قومه، كفارته التحرير، ولا دية فيه، لأنه لا يصح دفعها إلى الكفار.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وقائل المقالة الأولى يقول: إن قتل المؤمن في بلد المسلمين وقومه في حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة.

وقوله تعالى: وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق المعنى عند الحسن، وجابر بن زيد، وإبراهيم، وغيرهم: وإن كان هذا المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم، فكفارته التحرير وأداء الدية، وقرأ الحسن: "وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق -وهو مؤمن-" وقال ابن عباس، والشعبي، وإبراهيم أيضا: المقتول من أهل العهد خطأ لا يبالى كان مؤمنا أو كافرا على عهد قومه، فيه الدية كدية المسلم، والتحرير. واختلف على هذا في دية المعاهد، فقال أبو حنيفة وغيره: ديته كدية المسلم، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال مالك وأصحابه: ديته على نصف دية المسلم، وقال الشافعي، وأبو ثور: ديته على ثلث دية المسلم.

وقوله تعالى: فمن لم يجد الآية، يريد عند الجمهور: فمن لم يجد العتق، ولا اتسع ماله له فيجزيه صيام شهرين متتابعين في الأيام لا يتخللها فطر، وقال مكي [ ص: 631 ] عن الشعبي: صيام الشهرين يجزئ عن الدية والعتق لمن لم يجدهما، وهذا القول وهم، لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل، والطبري حكى القول عن مسروق. و"توبة" نصب على المصدر، ومعناه: رجوعا بكم إلى التيسير والتسهيل.

التالي السابق


الخدمات العلمية