الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 695 ] الجزء الرابع [ ص: 696 ]

30 - باب الرد على القدرية

قال محمد بن الحسين :

[ ص: 697 ] حسبي الله وكفى ، ونعم الوكيل ، والحمد لله : أهل الحمد والثناء ، والعدة والبقاء ، والعظمة والكبرياء ، أحمده على تواتر نعمه ، وقديم إحسانه وقسمه ، حمد من يعلم أن مولاه الكريم يحب الحمد ، فله الحمد على كل حال ، وصلواته على البشير النذير ، السراج المنير ، سيد الأولين والآخرين ، ذلك محمد رسول رب العالمين ، وعلى آله الطيبين ، وعلى أصحابه المنتخبين ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين .

أما بعد : فإن سائل سأل عن مذهبنا في القدر .

فالجواب في ذلك - قبل أن نخبره بمذهبنا - أنا ننصح السائل ونعلمه أنه لا يحسن بالمسلمين التنقير ، والبحث عن القدر ؛ لأن القدر سر [ ص: 698 ] من سر الله بل الإيمان بما جرت به المقادير من خير أو شر واجب على العباد أن يؤمنوا به ، ثم لا يأمن العبد أن يبحث عن القدر فيكذب بمقادير الله الجارية على العباد ، فيضل عن طريق الحق .

قال صلى الله عليه وسلم : " ما هلكت أمة قط إلا بالشرك بالله ، وما أشركت أمة حتى يكون بدو أمرها وشركها التكذيب بالقدر " .

قال محمد بن الحسين - رحمه الله - :

ولولا أن الصحابة كما بلغهم عن قوم ضلال شردوا عن طريق الحق ، وكذبوا بالقدر ، فردوا عليهم قولهم وسبوهم وكفروهم ، وكذلك التابعون - لهم بإحسان - سبوا من تكلم في القدر ، وكذب به ، ولعنوهم ، ونهوا عن مجالستهم ، وكذلك أئمة المسلمين ينهون عن مجالسة القدرية ، وعن مناظرتهم ، وبينوا للمسلمين قبيح مذاهبهم ، فلولا أن هؤلاء ردوا على [ ص: 699 ] القدرية لم يسع من بعدهم الكلام في القدر ، بل الإيمان [ بالقدر ] خيره وشره ، واجب ، قضاء وقدر ، وما قدر يكن ، وما لم يقدر لم يكن ، وإذا عمل العبد بطاعة الله تعالى علم أنها بتوفيق منه له ، فيشكره على ذلك ، وإذا عمل بمعصيته ندم على ذلك وعلم أنها بمقدور جرى عليه ، فذم نفسه ، واستغفر الله تعالى .

هذا مذهب المسلمين ، وليس لأحد على الله حجة ، بل لله الحجة على خلقه ، قال الله تعالى : ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) .

ثم اعلموا - رحمنا الله وإياكم - أن مذهبنا في القدر أنا نقول : إن الله تعالى خلق الجنة ، وخلق النار ، لكل واحدة منهما أهلا ، وأقسم بعزته أنه يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين ، ثم خلق آدم عليه السلام ، واستخرج من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة ، ثم جعلهم فريقين ، فريقا في الجنة ، وفريقا في السعير ، وخلق إبليس ، وأمره بالسجود لآدم ، وقد [ ص: 700 ] علم أنه لا يسجد ، للمقدور الذي قد جرى عليه من الشقوة ، والتي سبقت في العلم من الله عليه ، لا معارض لله في حكمه ، يفعل في خلقه ما يريد ، عدلا من ربنا قضاؤه وقدره ، وخلق آدم وحواء - عليهما السلام - للأرض خلقهما ، أسكنهما الجنة ، وأمرهما أن يأكلا منها رغدا ما شاءا ، ونهاهما عن شجرة واحدة أن يقرباها ، وقد جرى مقدوره أنهما سيعصيانه بأكلهما من الشجرة ، فهو تبارك وتعالى في الظاهر ينهاهما ، وفي الباطن من علمه قد قدر عليهما أنهما يأكلان منها ، ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ، لم يكن لهما بد من أكلهما ، سببا للمعصية ، وسببا لخروجهما من الجنة ؛ إذ كانا للأرض خلقا ، وأنه سيغفر لهما بعد المعصية ، كل ذلك سابق في علمه ، لا يجوز أن يكون شيء يحدث في جميع خلقه إلا وقد جرى مقدوره به ، وأحاط به علما قبل كونه أنه سيكون ، خلق الخلق كما شاء لما شاء ، فجعلهم شقيا وسعيدا ، قبل أن يخرجهم إلى الدنيا ، وهم في بطون أمهاتهم ، وكتب آجالهم ، وكتب أرزاقهم ، وكتب أعمالهم ، ثم أخرجهم إلى الدنيا ، وكل إنسان يسعى فيما كتب له وعليه .

ثم بعث رسله ، وأنزل عليهم وحيه ، وأمرهم بالبلاغ لخلقه ، فبلغوا رسالات ربهم ، ونصحوا قومهم ، فمن جرى في مقدور الله تعالى أن يؤمن آمن ، ومن جرى في مقدوره أن يكفر كفر ، قال الله تعالى : ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير ) ، أحب من أراد من [ ص: 701 ] عباده ؛ فشرح صدره للإسلام والإيمان ، ومقت آخرين فختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم ، فلن يهتدوا إذا أبدا ، يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ، الخلق كلهم له ، يفعل في خلقه ما يريد ، غير ظالم لهم ، جل ذكره عن أن ينسب ربنا إلى الظلم ، إنما يظلم من يأخذ ما ليس له بملك ، وأما ربنا تعالى فله ما في السماوات وما في الأرض ، وما بينهما ، وما تحت الثرى وله الدنيا والآخرة جل ذكره ، وتقدست أسماؤه ، أحب الطاعة من عباده ، وأمر بها ، فجرت ممن أطاعه بتوفيقه لهم ، ونهى عن المعاصي ، وأراد كونها من غير محبة منه لها ، ولا أمر بها ، تعالى تعالى عز وجل عن أن يأمر بالفحشاء أو يحبها ، وجل الله تعالى ربنا من أن يجري في ملكه ما لم يرد أن يجري ، أو شيء لم يحط به علمه قبل كونه ، قد علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم ، وبعد أن خلقهم قبل أن يعملوا ، قضاء وقدر ، قد جرى القلم بأمره تعالى في اللوح المحفوظ بما يكون من بر أو فجور ، يثني على من عمل بطاعته من عبيده ، ويضيف العمل إلى العباد ، ويعدهم عليه الجزاء العظيم ولولا [ ص: 702 ] توفيقه لهم ما عملوا بما استوجبوا به منه الجزاء : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) .

وكذا ذم قوما عملوا بمعصيته ، وتواعدهم على العمل بها النار ، وأضاف العمل إليهم بما عملوا ، وذلك بمقدور جرى عليهم ، يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء / 50 قال محمد بن الحسين :

هذا مذهبنا في القدر الذي سأل عنه السائل .

فإن قال قائل : ما الحجة فيما قلت ؟ .

قيل له : كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وسنة أصحابه ، رضي الله عنهم ، والتابعين لهم بإحسان ، وقول أئمة المسلمين .

فإن قال : فاذكر من ذلك ما نزداد به علما ويقينا .

قيل له : نعم ، إن شاء الله ، والله الموفق لكل رشاد ، والمعين عليه بمنه .

[ ص: 703 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية