الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 102 ] والثاني : يكون بأنواع :

أحدها : دخول حرف فأكثر من حروف التأكيد السابقة في نوع الأدوات ، وهي إن ، وأن ، ولام الابتداء والقسم ، وألا الاستفتاحية ، وأما ، وهاء التنبيه ، وكأن في تأكيد التشبيه ، ولكن في تأكيد الاستدراك ، وليت في تأكيد التمني ، ولعل في تأكيد الترجي ، وضمير الشأن ، وضمير الفصل ، وأما في تأكيد الشرط ، وقد والسين وسوف ، والنونان في تأكيد الفعلية ، ولا التبرئة ، ولن ، ولما في تأكيد النفي .

وإنما يحسن تأكيد الكلام بها إذا كان المخاطب به منكرا أو مترددا . ويتفاوت التأكيد بحسب قوة الإنكار وضعفه كقوله تعالى حكاية عن رسل عيسى إذ كذبوا في المرة الأولى : إنا إليكم مرسلون [ يس : 14 ] ، فأكد ب ( إن ) واسمية الجملة ، وفي المرة الثانية : ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون [ يس : 16 ] ، فأكد بالقسم و ( إن ) واللام واسمية الجملة لمبالغة المخاطبين في الإنكار ؛ حيث قالوا : ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون [ يس : 15 ] .

وقد يؤكد بها ، والمخاطب به غير منكر لعدم جريه على مقتضى إقراره ، فينزل منزلة المنكر ، وقد يترك التأكيد وهو معه منكر ؛ لأن معه أدلة ظاهرة لو تأملها لرجع عن إنكاره ؛ ولذلك يخرج قوله ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ المؤمنون : 15 ، 16 ] ، أكد الموت تأكيدين وإن لم ينكر ، لتنزيل المخاطبين - لتماديهم في الغفلة - تنزيل من ينكر الموت ، وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان أشد نكيرا ؛ لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بأن لا ينكر ، فنزل المخاطبون منزلة غير المنكر حثا لهم على النظر في أدلته الواضحة .

ونظيره قوله تعالى : لا ريب فيه [ البقرة : 2 ] ، نفى عنه الريبة ب ( لا ) على سبيل [ ص: 103 ] الاستغراق مع أنه ارتاب فيه المرتابون ، لكن نزل منزلة العدم تعويلا على ما يزيله من الأدلة الباهرة ، كما نزل الإنكار منزلة عدمه لذلك .

وقال الزمخشري : بولغ في تأكيد الموت تنبيها للإنسان على أن يكون الموت نصب عينيه ، ولا يغفل عن ترقبه ، فإن مآله إليه ، فإنه أكدت جملته ثلاث مرات لهذا المعنى ؛ لأن الإنسان في الدنيا يسعى فيها غاية السعي حتى كأنه يخلد ، ولم يؤكد جملة البعث إلا بإن ؛ لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ، ولا يقبل إنكارا .

وقال التاج بن الفركاح : أكد الموت ردا على الدهرية القائلين ببقاء النوع الإنساني خلفا عن سلف ، واستغنى عن تأكيد البعث هنا لتأكيده والرد على منكره في مواضع ؛ كقوله : قل بلى وربي لتبعثن [ التغابن : 7 ] .

وقال غيره : لما كان العطف يقتضي الاشتراك استغنى عن إعادة اللام لذكرها في الأول . وقد يؤكد بها - أي : باللام - للمستشرف الطالب الذي قدم له ما يلوح بالخبر ، فاستشرفت نفسه إليه ، نحو : ولا تخاطبني في الذين ظلموا [ هود : 37 ] ؛ أي : لا تدعني يا نوح في شأن قومك ، فهذا الكلام يلوح بالخبر تلويحا ، ويشعر بأنه قد حق عليهم العذاب ، فصار المقام مقام أن يتردد المخاطب في أنهم : هل صاروا محكوما عليهم بذلك أو لا ؟ فقيل : إنهم مغرقون بالتأكيد .

وكذا قوله : ياأيها الناس اتقوا ربكم [ الحج : 1 ] ، لما أمرهم بالتقوى ، وظهور ثمرتها ، والعقاب على تركها محله الآخرة ، تشوقت نفوسهم إلى وصف حال الساعة فقال : إن زلزلة الساعة شيء عظيم [ الحج : 1 ] ، بالتأكيد ليتقرر عليه الوجوب . وكذا قوله : وما أبرئ نفسي [ يوسف : 35 ] فيه تحيير للمخاطب وتردد في أنه كيف لا يبرئ نفسه وهي بريئة زكية ، ثبتت عصمتها وعدم مواقعتها السوء ، فأكده بقوله : إن النفس لأمارة بالسوء [ يوسف : 53 ] . وقد يؤكد لقصد الترغيب ، نحو : فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم [ البقرة : 37 ] ، أكد بأربع تأكيدات ترغيبا للعباد في التوبة ، وقد سبق على أدوات التأكيد المذكورة ومعانيها ومواقعها في النوع الأربعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية