الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم

                          [ ص: 279 ] هذا بيان حال أخرى من أحوال أهل الكتاب ، تمثلها طائفة أخرى تخون الأمانة وتستحل أكل أموال من ليس من الإسرائيليين بالباطل غرورا في الدين وتأويلا للكتاب . وهي قد جاءت في مقابل الطائفة التي تكيد للمسلمين ليرجعوا عن دينهم . وقال الأستاذ الإمام في قوله : ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلخ . هذه الآية جاءت ببعض التفصيل لما أجمل في الآيات السابقة من غرور أهل الكتاب وزعمهم أنهم شعب الله الخاص ، وأن الدين والحق من خصائصهم . وابتداؤها بالعطف يشعر بمعطوف محذوف حذف إيجازا ، لأن السياق لا يقتضي ذكره وهو مبين في آيات أخرى كقوله - تعالى - : من أهل الكتاب أمة قائمة [ 3 : 113 ] إلخ . فكأنه هاهنا يعطف على ما هنالك ، أي منهم كذا ومنهم كذا . وإنما قال : كأنه ؛ لأن آية من أهل الكتاب . . . إلخ في هذه السورة وهي متأخرة عن هذه الآيات . ولعل جعله معطوفا على ما قبله باعتبار المفهوم أقرب ، فكأنه قال : منهم طائفة تكيد للمسلمين ومنهم من يستحل أكل أموالهم وأموال غيرهم ، وقد أشرنا إلى ذلك آنفا وإنما أعاد ذكر أهل الكتاب ولم يبتدئ الآية بقوله : " ومنهم " - والكلام فيهم - للإشعار بأنهم فعلوا ذلك باسم الكتاب الذي حرفوا نهيه عن أكل أموال الناس بالباطل فزعموا أنه لم ينههم إلا عن خيانة إخوتهم الإسرائيليين . وقد تقدم تفسير القنطار ( آية 14 ) وقوله : إلا ما دمت عليه قائما معناه إلا مدة دوامك أيها المؤتمن له قائما على رأسه تلح بالمطالبة ، أو تلجأ إلى التقاضي والمحاكمة ، ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل أي ذلك الترك للأداء بسبب قولهم : ليس علينا في أكل أموال الأميين أي العرب تبعة ولا ذنب ، فكأنه يقول : إن استحلال هذه الخيانة جاءهم من الغرور بشعبهم والغلو في دينهم ، فإن ذلك يستتبع احتقار المخالف احتقارا يهضم به حقه الثابت في المعاملة . قال الأستاذ الإمام : كأنهم يقولون إن كل من ليس من شعب الله الخاص وليس من أهل دينه فهو ساقط من نظر الله ومبغوض عنده ، فلا حقوق له ولا حرمة لما له فيحل أكله متى أمكن ، وقد رد الله عليهم هذه المزاعم بقوله : ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون أن ذلك كذب عليه لأن ما كان منه فهو ما جاء في كتابه وليس في التوراة التي عندهم إباحة خيانة الأميين وأكل أموالهم بالباطل وهم يعلمون أن ذلك ليس فيها ، ولكنهم لا يأخذون الدين من الكتاب ، وإنما لجئوا إلى التقليد فعدوا كلام أحبارهم دينا ينسبونه إلى الله ، وهؤلاء يقولون في الدين بآرائهم ويحرفون الكلم عن مواضعه ليؤيدوا بذلك أقوالهم ، فكل هذه الدواهي جاءتهم من هذه الناحية ، ناحية التقليد والأخذ بكلام العلماء في الحلال والحرام ، وهو مما لا يؤخذ فيه إلا بكتاب الله ووحيه . وانظر كيف أنصفهم الكتاب فبين أن منهم الوفي والخائن ، ولا يكون أفراد جميع الأمة خائنين ، وناهيك بأمة منها السموأل .

                          [ ص: 280 ] أقول : وفي خبر هؤلاء المحرفين من العبرة لنا معشر المسلمين ما فيه ، فإن فينا من يقول الآن : إنه يجوز أكل أموال غير المسلمين بل المسلمين في دار الحرب مطلقا ، ثم إن هؤلاء يفسرون دار الحرب - كما يشاءون - حتى رأيت بعض الناس يحلون لعمال مركبات الترام بمصر أن يخونوا أصحابها ببيع تذكرة الركوب فيها مرتين أو أكثر ويساعدونهم على ذلك وإن استلزمت مساعدتهم الكذب ، فهم بهذا يحلون الخيانة والسرقة والكذب وهي من كبائر المعاصي التي لا تحل في دين ، ويتناولهم وعيد اليهود في الآية ووعيد قوله - تعالى - : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم [ 16 : 116 ، 117 ] وما جرأهم على ذلك إلا سوء التقليد للفقهاء الذين قالوا بجواز أكل مال الحربي في داره بالعقود الفاسدة التي لا تحل في دار الإسلام كالربا والبيع الفاسد ، ولكن هؤلاء الفقهاء لا يحلون الغش ولا الخيانة ولا السرقة ولا الكذب والاحتيال لذلك ، وإنما يقولون يجوز أكل ماله برضاه في مثل تلك العقود ، على أن المسألة خلافية لم يتفق الفقهاء عليها . فلينظر المسلم الصادق المستنير بالدليل إلى سوء مغبة التقليد وكيف أنه استلزم الاجتهاد الباطل إذ صار الجاهلون من المقلدين يقيسون أكل المال بالغش والخيانة والسرقة على أكله بالعقود الفاسدة مع التراضي ، وبينهما فرق عظيم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية