الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              46 (باب منه) وذكره النووي في الباب المتقدم

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 233 - 240 جـ1 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن أبي هريرة ، قال: كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر في نفر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا، وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار فدرت به، هل أجد له بابا؟ فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة، و «الربيع» الجدول، فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبو هريرة فقلت: نعم يا رسول الله! قال: ما شأنك؟ قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا، فكنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: يا أبا هريرة وأعطاني نعليه قال: اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة فكان أول من لقيت [ ص: 98 ] عمر فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة فقلت: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما من لقيت يشهد «أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشرته بالجنة» فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لاستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاء وركبني عمر فإذا هو على أثري فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا هريرة؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي، قال: ارجع، فقال له رسول الله: يا عمر ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة؟ قال: نعم؟ قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فخلهم ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              عن أبي هريرة قال: (كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم: معنا أبو بكر وعمر في نفر.

                                                                                                                              يقال «قعدنا حوله» ، وحوليه، وحواليه، بفتح الحاء واللام في جميعها. ولا يقال «بكسر اللام» ، و «معنا» بفتح العين، ويجوز «تسكينها» في لغة.

                                                                                                                              [ ص: 99 ] قال صاحب «المحكم» : «مع» اسم معناه: «الصحبة» ، وكذلك بإسكان العين. غير أن المحركة تكون: «اسما وحرفا» ، والساكنة لا تكون، إلا حرفا.

                                                                                                                              وذكر «أبي بكر وعمر» هنا من فصيح الكلام وحسن الإخبار، فإنهم إذا أرادوا الإخبار عن جماعة، فاستكثروا أن يذكروا جميعهم بأسمائهم، ذكروا أشرافهم أو بعض أشرافهم، ثم قالوا: «وغيرهم» .

                                                                                                                              (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا ) ، وقال بعده. كنت بين أظهرنا. هكذا هو في الموضعين « أظهرنا » ، ووقع في بعض الأصول «ظهرينا» وكلاهما صحيح؛ يقال «بين أظهركم، وظهريكم، وظهرانيكم» بفتح النون. أي: بينكم.

                                                                                                                              (فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا ) . أي: يصاب بمكروه من عدو، إما بأسر، وإما بغيره، «وفزعنا فقمنا ، فكنت أول من فزع» .

                                                                                                                              قال عياض: «الفزع» يكون بمعنى «الروع» ، ومعنى «الهيوب للشيء والاهتمام به، وبمعنى «الإغاثة» ، فتصح هذه المعاني الثلاثة. أي: ذعرنا، «لاحتباس النبي صلى الله عليه وسلم عنا» ألا تراه كيف قال: «وخشينا أن يقتطع دوننا» ؟ ويدل على الوجهين الآخرين قوله (فكنت أول من فزع ) ، (فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار ) . أي: «بستانا» وسمي بذلك لأنه «حائط» لا سقف له (فدرت [ ص: 100 ] به هل أجد له بابا؟ فلم أجد، فإذا «الربيع ) بفتح الراء على لفظ «الربيع» الفصل المعروف «يدخل في جوف حائط من بئر خارجة» -والربيع- الجدول بفتح الجيم. وهو النهر الصغير. وجمع الربيع «أربعاء» كنبي وأنبياء، «والبئر» مؤنثة. وهي مشتقة من «بارت» . أي: حفرت، وقرئ بالتنوين فيها. وفي «خارجة» على أنها صفة لبئر. وهو المشهور الظاهر.

                                                                                                                              (فاحتفزت» كما يحتفز الثعلب. روي هذا «بالزاي وبالراء» ، والأول هو الصواب ومعناه: تضاممت ليسعني المدخل. وأنكر صاحب «التحرير» الزاي، واختار الراء.

                                                                                                                              قال النووي: ليس اختياره بمختار انتهى. لأن رواية الزاي أقرب من حيث المعنى. ويدل عليه تشبيهه بفعل الثعلب. والله أعلم.

                                                                                                                              (فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبو هريرة» ؟ معناه: أنت أبو هريرة؟ فقلت: نعم! يا رسول الله! قال: ما شأنك» ؟ قلت: كنت بين أظهرنا فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا، فكنت أول من فزع فأتيت هذا «الحائط» فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي. فقال: «يا أبا هريرة» وأعطاني نعليه. «قال» اذهب بنعلي هاتين . أعاد لفظة «قال» لطول الكلام، وحصول الفصل، بقوله: «يا أبا هريرة» وأعطاني نعليه. وهذا حسن، وجاء أيضا في كلام الله سبحانه وتعالى: [ ص: 101 ] ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا .

                                                                                                                              قال الواحدي: قوله: «فلما جاءهم» تكرير للأول لطول الكلام قال: ومثله قوله:

                                                                                                                              أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون .

                                                                                                                              أعاد «أنكم» لطول الكلام. وإنما أعطي «النعلين» لتكون علامة ظاهرة معلومة عندهم، يعرفون بها أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون أوقع في نفوسهم لما يخبرهم به عنه صلى الله عليه وسلم، ولا ينكر كون مثل هذا يفيد تأكيدا، وإن كان خبره مقبولا من غير هذا، والله أعلم.

                                                                                                                              (فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد -أن لا إله إلا الله- مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة ) ، أي: أخبرهم أن من كانت هذه صفته فهو من أهل الجنة، وإلا فأبو هريرة لا يعلم استيقان قلوبهم.

                                                                                                                              وفي هذا دلالة واضحة، وبينة ظاهرة، لأهل الحق: أنه لا ينفع اعتقاد التوحيد دون النطق، ولا النطق دون الاعتقاد، بل لا بد من الجمع بينهما. وذكر «القلب» هنا للتأكيد، ونفي توهم المجاز. وإلا فالاستيقان لا يكون إلا بالقلب.

                                                                                                                              فكان أول من لقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هاتين نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 102 ] بعثني بهما ) هكذا في جميع الأصول بنصب «هاتين» ورفع «نعلا» وهو صحيح. ومعناه: فقلت. تعني هاتين؟ هما نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصب «هاتين» بإضمار «تعني» وحذف «هما» للعلم به.

                                                                                                                              وفي أكثر الأصول «بها» مكان «بهما» ، وهو صحيح. ويكون الضمير عائدا إلى «العلامة» فإن النعلين كانتا علامة..

                                                                                                                              (من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشرته بالجنة فضرب عمر بيده بين ثديي ) تثنية «ثدي» بفتح الثاء مذكر. وقد يؤنث في لغة قليلة، واختلفوا في اختصاصه «بالمرأة» ، فمنهم من قال: يكون للرجل والمرأة، ومنهم من قال هو للمرأة خاصة؛ فيكون إطلاقه في الرجل مجازا، واستعارة، وقد كثر إطلاقه في الأحاديث للرجل.

                                                                                                                              (فخررت لاستي ) هو اسم من أسماء «الدبر» والمستحب في مثل هذا الكناية عن قبيح الأسماء، واستعمال المجاز، والألفاظ التي تحصل الغرض، ولا يكون في صورتها ما يستحى من التصريح بحقيقة لفظه. وبهذا الأدب جاء القرآن العزيز والسنن «كالرفث» ، و «الإفضاء» ، و «المس» ، و «الغائط» ، و «المحيض» .

                                                                                                                              وقد يستعملون صريح الاسم لمصلحة راجحة، وهي إزالة اللبس، أو الاشتراك، أو نفي المجاز، أو نحو ذلك، كقوله تعالى: الزانية والزاني .

                                                                                                                              [ ص: 103 ] وكقوله صلى الله عليه وسلم: «أنكتها» ؟ وكقوله «أدبر الشيطان وله ضراط» . وكقول أبي هريرة «الحدث فساء أو ضراط» ، ونظائر ذلك كثيرة.

                                                                                                                              واستعمال أبي هريرة هنا لفظ «الاست» من هذا القبيل والله أعلم.

                                                                                                                              (فقال: ارجع يا أبا هريرة؛ فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . ولم يقصد عمر بالدفع له سقوطه وإيذاءه، بل قصد رده عما هو عليه. وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره.

                                                                                                                              قال عياض وغيره من أهل العلم: ليس فعل عمر ومراجعته النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضا عليه وردا لأمره، إذ ليس فيما بعث به أبا هريرة غير تطييب قلوب الأمة وبشراهم، فرأى عمر أن كتم هذا أصلح لهم وأحرى أن لا يتكلوا، وأنه أعود عليهم بالخير من معجل هذه البشرى.

                                                                                                                              فلما عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم صوبه فيه والله تعالى أعلم.

                                                                                                                              «وفي هذا الحديث» أن الإمام والكبير مطلقا إذا رأى شيئا، ورأى بعض أتباعه خلافه، أنه ينبغي للتابع أن يعرضه على المتبوع لينظر فيه، فإن ظهر له أن ما قاله التابع هو الصواب رجع إليه، وإلا بين للتابع جواب الشبهة التي عرضت له والله أعلم.

                                                                                                                              (فأجهشت بكاء، وركبني عمر) رضي الله عنه (فإذا هو على أثري) . وفي كتاب القاضي عياض «جهشت» بحذف الألف. وهما صحيحان.

                                                                                                                              «والجهش والجهوش والإجهاش» هو: أن يفزع الإنسان إلى غيره، وهو متغير الوجه متهيئ للبكاء، ولما يبك بعد.

                                                                                                                              قال الطبري: هو الفزع والاستغاثة. وقال أبو زيد: جهشت بالبكاء [ ص: 104 ] والحزن والشوق، والله أعلم. «والبكاء، والبكا» مد وقصر: لغتان، وفرق بينهما ابن القيم. ومعنى «ركبني» : تبعني ومشى خلفي في الحال بلا مهلة.

                                                                                                                              «وفي أثري» لغتان فصيحتان مشهورتان بكسر الهمزة وإسكان الثاء وبفتحهما. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لك يا أبا هريرة» ؟ فقلت: لقيت عمر، فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي قال: ارجع. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا عمر! ما حملك على ما فعلت» ؟ قال يا رسول الله! بأبي أنت وأمي. معناه: أنت مفدى أو أفديك بأبي وأمي «أبعثت أبا هريرة بنعليك- من لقي - يشهد أن لا إله إلا الله. مستيقنا بها قلبه بشره بالجنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» . قال: فلا تفعل بأبي أنت وأمي، فإني أخشي أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فخلهم» . هذا الحديث مشتمل على فوائد كثيرة، تقدم في أثناء الكلام جمل. وفيه جلوس العالم لأصحابه ولغيرهم من المستفتين وغيرهم، يعلمهم ويفيدهم ويفتيهم.

                                                                                                                              «وفيه» بيان ما كانت عليه الصحابة رضي الله عنهم من القيام بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإكرامه، والشفقة، عليه والانزعاج البالغ لما يطرقه، صلى الله عليه وسلم «وفيه» اهتمام الأتباع بحقوق متبوعهم، والاعتناء بتحصيل مصالحه، ودفع المفاسد عنه.

                                                                                                                              [ ص: 105 ] «وفيه» جواز دخول الإنسان ملك غيره بغير إذنه إذا علم أنه يرضي ذلك المودة بينهما أو غير ذلك، فإن أبا هريرة دخل «الحائط، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. ولم ينقل أنه أنكر عليه. وهذا غير مختص بدخول الأرض بل يجوز له الانتفاع بأدواته، وأكل طعامه، والحمل من طعامه إلى بيته، وركوب دابته، ونحو ذلك من التصرف الذي يعلم أنه لا يشق على صاحبه.

                                                                                                                              هذا هو المذهب الصحيح الذي عليه جماهير السلف والخلف من العلماء، وصرح به الشافعية. قال ابن عبد البر: وأجمعوا على أنه لا يتجاوز الطعام وأشباهه إلى الدراهم والدنانير وأشباههما.

                                                                                                                              وفي ثبوت الإجماع في حق من يقطع بطيب قلب صاحبه بذلك نظر. ولعل هذا يكون في الدراهم الكثيرة التي يشك أو قد يشك في رضاه بها؛ فإنهم اتفقوا على أنه إذا تشكك لا يجوز التصرف مطلقا فيما تشكك في رضاه به. ثم دليل الجواز في الباب الكتاب والسنة وفعل السلف، وقول أعيان الأمة؛ فالكتاب قوله تعالى:

                                                                                                                              ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم .

                                                                                                                              والسنة «هذا الحديث» ، وما في معناه من الأحاديث الكثيرة المعروفة؛ [ ص: 106 ] و أفعال السلف وأقوالهم في هذا، أكثر من أن تحصى.

                                                                                                                              و «فيه» إرسال الإمام أو المتبوع إلى أتباعه «بعلامة» يعرفونها ليزدادوا بها طمأنينة، «وفيه» جواز إمساك بعض العلوم التي لا حاجة إليها للمصلحة، أو خوف المفسدة.

                                                                                                                              «وفيه» جواز قول الرجل للآخر. (بأبي أنت وأمي !) . قال عياض: وقد كرهه بعض السلف، وقال لا يفدى مسلم. والأحاديث الصحيحة تدل على جوازه سواء كان المفدى به مسلما أو كافرا، حيا كان أو ميتا.

                                                                                                                              وفيه غير ذلك والله أعلم.




                                                                                                                              الخدمات العلمية