الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (49) قوله تعالى : ورسولا : في "رسول " وجهان ، أحدهما : أنه صفة بمعنى مرسل فهو صفة على فعول كالصبور والشكور . والثاني : أنه في الأصل مصدر ، ومن مجيء "رسول " مصدرا قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1291 - لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول



                                                                                                                                                                                                                                      أي : برسالة ، وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1292 - أبلغ أبا سلمى رسولا تروعه      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      أي : أبلغه رسالة ، ومنه قوله تعالى : إنا رسول رب العالمين على أحد التأولين ، أي : إنا ذوا رسالة رب العالمين ، وعلى الوجهين يترتب الكلام في إعراب "رسول " :

                                                                                                                                                                                                                                      فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجه ، أحدها : أن يكون معطوفا على " يعلمه " إذا أعربناه حالا معطوفا على "وجيها " إذ التقدير : وجيها ومعلما ومرسلا ، قاله الزمخشري وابن عطية . قال الشيخ : "وهو مبني على [ ص: 187 ] إعراب " ويعلمه " ، وقد بينا ضعف إعراب من يقول إن " ويعلمه "معطوف على " وجيها "للفصل المفرط بين المتعاطفين " .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن يكون نسقا على "كهلا " الذي هو حال من الضمير المستتر في "ويكلم " أي : يكلم الناس طفلا وكهلا ومرسلا إلى بني إسرائيل ، جوز ذلك ابن عطية . واستبعده الشيخ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه . قلت : ويظهر أن ذلك لا يجوز من حيث المعنى ، إذ يصير التقدير : يكلم الناس في حال كونه رسولا إليهم ، وهو إنما صار رسولا بعد ذلك بأزمنة ، فإن قيل : هي حال مقدرة كقولهم : "مررت برجل معه صقر صائدا به غدا " وقوله : فادخلوها خالدين ، قيل : الأصل في الحال أن تكون مقارنة ، ولا تكون مقدرة إلا حيث لا لبس .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن يكون منصوبا بفعل مضمر لائق بالمعنى ، تقديره : ونجعله رسولا ، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملا يناسبه ، وهذا كما قالوا في قوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1293 - يا ليت زوجك قد غدا     متقلدا سيفا ورمحا



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1294 - علفتها تبنا وماء باردا      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 188 ] وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1295 - ... ... ... ...     وزججن الحواجب والعيونا



                                                                                                                                                                                                                                      أي : واعتقدوا الإيمان ، ومعتقلا رمحا ، وسقيتها ماء باردا ، وكحلن العيون ، وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن يكون منصوبا بإضمار فعل من لفظ "رسول " ، ويكون ذلك الفعل معمولا لقول مضمر أيضا هو من قول عيسى .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : أن الرسول فيه معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقا بأني قد جئتكم . ويوضح هذين الوجهين الأخيرين ما قاله الزمخشري ، قال رحمه الله : "فإن قلت : علام تحمل " ورسولا ومصدقا "من المنصوبات المتقدمة ، وقوله : أني قد جئتكم و لما بين يدي يأبى حمله عليها ؟ قلت : هو من المضايق ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن تضمر له " وأرسلت "على إرادة القول ، تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة ويقول : أرسلت رسولا بأني قد جئتكم ومصدقا لما بين يدي . والثاني : أن الرسول والمصدق فيهما معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقا بأني قد جئتكم ومصدقا لما بين يدي "انتهى . إنما احتاج إلى إضمار ذلك كله تصحيحا للمعنى واللفظ ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات لا يصح عطفه عليه في الظاهر ؛ لأن الضمائر المتقدمة غيب ، [ ص: 189 ] والضميران المصاحبان لهذين المنصوبين للمتكلم ، فاحتاج إلى ذلك التقدير لتتناسب الضمائر . قال الشيخ : " وهذا الوجه ضعيف ؛ إذ فيه إضمار شيئين : القول ومعموله الذي هو "أرسلت " ، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة ، إذ يفهم من قوله "وأرسلت " أنه رسول فهي حال مؤكدة " . واختار الشيخ الوجه الثالث قال : " إذ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى ، ويكون قوله : أني قد جئتكم معمولا لرسول أي : ناطقا بأني قد جئتكم ، على قراءة الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      السادس : أن يكون حالا من مفعول "ويعلمه " وذلك على زيادة الواو ، كأنه قيل : ويعلمه الكتاب حال كونه رسولا ، قاله الأخفش ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو ، وهو مذهب مرجوح .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى الثاني في نصبه وجهان ، أنه مفعول به عطفا على المفعول الثاني ليعلمه أي : ويعلمه الكتاب ورسالة أي : يعلمه الرسالة أيضا ، والثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، وفيه التأويلات المشهورة في : رجل عدل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ اليزيدي : "ورسول " بالجر ، وخرجها الزمخشري على أنها منسوقة على قوله : "بكلمة " أي : نبشرك بكلمة وبرسول . وفيه بعد لكثرة الفصل بين المتعاطفين ، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 190 ] وقوله : إلى بني إسرائيل فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بنفس "رسولا " إذ فعله يتعدى بإلى ، والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لرسولا ، فيكون منصوب المحل في قراءة الجمهور ، مجروره في قراءة اليزيدي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أني قد جئتكم قرأ العامة : "أني " بفتح الهمزة وفيها ثلاثة أوجه : أحدهما : أن موضعها جر بعد إسقاط الخافض ، إذ الأصل : بأني ، فـ "بأني " متعلق برسولا ، وهذا مذهب الشيخين : الخليل والكسائي . والثاني : أن موضعها نصب ، وفيه ثلاثة أوجه ، الأول : أنه نصب بعد إسقاط الخافض ، وهو الباء ، وهذا مذهب التلميذين : سيبويه والفراء . الثاني : أنه منصوب بفعل مقدر أي : يذكر أني ، فيذكر صفة لرسولا ، حذفت الصفة وبقي معمولها . الثالث : أنه منصوب على البدل من "رسولا " أي : إذا جعلته مصدرا مفعولا به ، تقديره : ويعلمه الكتاب ويعلمه أني قد جئتكم ، جوزه أبو البقاء وهو بعيد في المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : من الأوجه الأول : أن موضعه رفع على خبر متبدأ محذوف أي : هو أني قد جئتكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ بعض القراء بكسر هذه الهمزة وفيها تأويلان ، أحدهما : أنها على إضمار القول أي : قائلا إني قد جئتكم ، فحذف القول الذي هو حال في المعنى وأبقى معموله . والثاني : أن "رسولا " بمعنى ناطق ، فهو مضمن معنى [ ص: 191 ] القول ، وما كان مضمنا معنى [القول ] أعطي حكم القول ، وهذا مذهب الكوفيين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بآية يحتمل أن تكون متعلقة بمحذوف على أنها حال من فاعل "جئتكم " أي : جئتكم ملتبسا بآية . والثاني : أنها متعلقة بنفس المجيء أي : إجاءتكم الآية . وقوله : من ربكم صفة لآية فيتعلق بمحذوف أي : بآية من عند ربكم ، فـ "من " للابتداء مجازا ، ويجوز أن يتعلق " من ربكم " بنفس المجيء أيضا . وقدر أبو البقاء الحال في قوله بآية بقوله : محتجا بآية ، إن عنى من جهة المعنى صح ، وإن عنى من جهة الصناعة لم يصح ، إذ لم يضمر في هذه الأماكن إلا الأكوان المطلقة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور : "بآية " بالإفراد في الموضعين ، وابن مسعود : "بآيات " جمعا في الموضعين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أني أخلق قرأ نافع بكسر الهمزة ، والباقون بفتحها . فالكسر من ثلاثة أوجه ، الأول : على إضمار القول أي : فقلت : إني أخلق . الثاني : أنه على الاستئناف . الثالث : على التفسير ، فسر بهذه الجملة قوله : "بآية " كأن قائلا قال : وما الآية ؟ فقال هذا الكلام ، ونظيره ما سيأتي : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم " ثم قال : خلقه من تراب فخلقه مفسرة للمثل ، ونظيره أيضا قوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم فسر الوعد بقوله : لهم مغفرة ، وهذا الوجه هو الوجه الصائر إلى الاستئناف ، فإن [ ص: 192 ] المستأنف يؤتى به تفسيرا لما قبله ، إلا أن الفرق بينه وبين ما قبله أن الوجه الذي قبله لا تجعل له تعلقا بما تقدم البتة ، بل جيء به لمجرد الإخبار بما تضمنه ، والوجه الثالث تقول : إنه متعلق بما تقدمه ، مفسر له .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الجماعة ففيها أربعة أوجه أحدها : أنها بدل من " أني قد جئتكم " فيجيء فيها ما تقدم في تلك لأن حكمها حكمها . الثاني : أنها بدل من "آية " فتكون محلها ، أي : وجئتكم بأني أخلق لكم ، وهذا نفسه آية من الآيات ، وهذا البدل يحتمل أن يكون كلا من كل إن أريد بالآية شيء خاص ، وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس . الثالث : أنها خبر مبتدأ مضمر تقديره : هي أني أخلق أي : الآية التي جئت بها أني أخلق ، وهذه الجملة في الحقيقة جواب لسؤال مقدر كأن قائلا قال : وما الآية ؟ فقال : ذلك . الرابع : أن تكون منصوبة بإضمار فعل ، وهو أيضا جواب لذلك السؤال كأنه قال : أعني أني أخلق ، وهذان الوجهان يلاقيان في المعنى قراءة نافع على بعض الوجوه فإنهما استئناف .

                                                                                                                                                                                                                                      و "لكم " متعلق بأخلق ، واللام للعلة ، أي : لأجلكم بمعنى : لتحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياي ، وإلا فالذوات لا تكون عللا بل أحداثها . و " من الطين " متعلق به أيضا ، و "من " لابتداء الغاية ، وقول من قال : إنها للبيان "تساهل ، إذ لم يسبق منهم تبينه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : كهيئة الطير في موضع هذه الكاف ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها نعت لمفعول محذوف تقديره : أني أخلق لكم هيئة مثل هيئة الطير ، والهيئة : إما مصدر في الأصل ثم أطلقت على المفعول أي المهيأ كالخلق بمعنى المخلوق ، وإما اسم لحال الشيء ، وليست مصدرا ، والمصدر : التهيؤ والتهييء والتهيئة ، ويقال : [هاء الشيء يهيء هيئا وهيئة إذا ترتب واستقر على [ ص: 193 ] حالة مخصوصة ] ، ويتعدى بالتضعيف ، قال تعالى : ويهيئ لكم من أمركم مرفقا . والطين : معروف ، طانه الله على كذا وطامه بإبدال النون ميما أي : جبله عليه ، والنفخ معروف .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن الكاف هي المفعول به لأنها اسم كسائر الأسماء وهذا رأي الأخفش ، يجعل الكاف اسما حيث وقعت ، وغيره من النحاة لا يقول بذلك إلا إذا اضطر إليه كوقوعها مجرورة بحرف أو بإضافة أو تقع فاعلة أو مبتدأ ، وقد تقدم جميع أمثلة ذلك مسبوقا فأغنى عن إعادته هنا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنها نعت لمصدر محذوف ، قاله الواحدي نقلا عن أبي علي بعد كلام طويل ، قال " وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد ، تقديره : أني أخلق لكم من الطين خلقا مثل هيئة الطير " . وفيما قاله نظر من حيث المعنى ؛ لأن التحدي إنما يقع في أثر الخلق ، وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات لا في نفس الخلق ، اللهم إلا أن تقول : المراد بهذا المصدر المفعول به فيؤول إلى ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : " إني أقدر لكم شيئا مثل هيئة الطير "فهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف ، وقوله " أقدر "تفسير للخلق ، لأن الخلق هنا التقدير ، كقول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1296 - ولأنت تفري ما خلقت وبع     ض القوم يخلق ثم لا يفري



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 194 ] إذ ليس المراد الاختراع فإنه مختص بالباري تعالى . وقرأ الزهري : " كهية "بنقل حركة الهمزة إلى الياء وهي فصيحة . وقرأ أبو جعفر : كهيئة الطائر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فأنفخ فيه في هذا الضمير ستة أوجه ، أحدها : أنه عائد على الكاف ، لأنها اسم عند من يرى ذلك أي : أنفخ في مثل هيئة الطير . الثاني : أنه عائد على " هيئة "لأنها في معنى الشيء المهيأ ، فلذلك عاد الضمير عليها مذكرا ، وإن كانت مؤنثة ، اعتبارا بمعناها دون لفظها ، ونظيره قوله تعالى : وإذا حضر القسمة ثم قال : فارزقوهم منه فأعاد الضمير في : " منه "على القسمة لما كانت بمعنى المقسوم . الثالث : أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف أي : فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير . الرابع : أنه عائد على ما وقعت الدلالة عليه في اللفظ وهو " أني أخلق " ويكون الخلق بمنزلة المخلوق . الخامس : أنه عائد على ما دلت عليه الكاف من معنى المثل ، لأن المعنى : أخلق من الطين مثل هيئة الطير ، وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره : أني أخلق لكم خلقا مثل هيئة الطير ، قاله الفارسي وقد تقدم الكلام معه في ذلك . السادس : أنه عائد على الطين قاله أبو البقاء . وهذا الوجه قد أفسده الواحدي فإنه قال : "ولا يجوز أن تعود الكناية على الطين لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص ، وهو ما كان مهيأ منه ، والطين المتقدم ذكره عام فلا تعود إليه الكناية ، ألا ترى أنه لا ينفخ جميع الطين ، وفي هذا الرد نظر ، إذ لقائل أن يقول : لا نسلم عموم الطين المتقدم ، بل المراد بعضه ، ولذلك أدخل عليه " من "التي تقتضي التبعيض ، وإذا صار المعنى : " أني أخلق بعض الطين "عاد الضمير عليه من [ ص: 195 ] غير إشكال ، ولكن الواحدي جعل " من "في " من الطين "لابتداء الغاية وهو الظاهر . قال الشيخ : " وقد قرأ بعض القراء : "فأنفخها " أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة ، إذ يكون التقدير : هيئة كهيئة الطير ، أو على الكاف على المعنى ، إذ هي بمعنى : مماثلة هيئة الطير ، فيكون التأنيث هنا كما هو في آية المائدة في قوله : فتنفخ فيها فتكون هذه القراءة قد حذف حرف الجر منها كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1297 - ما شق جيب ولا قامتك نائحة     ولا بكتك جياد عند إسلاب



                                                                                                                                                                                                                                      وقول النابغة :


                                                                                                                                                                                                                                      1298 - ... ... ... ...     كالهبرقي تنحى ينفخ الفحما



                                                                                                                                                                                                                                      يريد : ولا قامت عليك ، وينفخ في الفحم ، قال : "وهي قراءة شاذة نقلها الفراء " ، وعجبت منه كيف لم يعزها ، وقد عزاها صاحب "الكشاف " إلى عبد الله قال : وقرأ عبد الله : "فأنفخها " وأنشد :

                                                                                                                                                                                                                                      "كالهبرقي تنحى " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : "فيكون " في "يكون " وجهان أحدهما : أنها تامة أي : فيوجد [ ص: 196 ] ويكون "طيرا " على هذا حالا ، والثاني : أنها الناقصة و "طيرا " خبرها ، وهذا هو الذي ينبغي أن يكون ، لأن في وقوع اسم الجنس حالا بعدا محوجا إلى تأويل ، وإنما يظهر ذلك على قراءة نافع : "طائرا " لأنه حينئذ اسم مشتق ، وإذا قيل بنقصانها فيجوز أن تكون على بابها ويجوز أن تكون بمعنى صار الناقصة كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1299 - بتيهاء قفر والمطي كأنها     قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها



                                                                                                                                                                                                                                      أي : صارت ، وقال أبو البقاء : "فيكون " أي : يصير ، فيجوز أن تكون "كان " هنا التامة لأن معناها "صار " ، وصار بمعنى انتقل ، ويجوز أن تكون الناقصة ، و "طائرا " على الأول حال وعلى الثاني خبر " . قلت : لا حاجة إلى جعله إياها في حال تمامها بمعنى "صار " التامة التي معناها معنى انتقل ، بل النحويون إنما يقدرون التامة بمعنى حدث ووجد وحصل وشبهها ، وإذا جعلوها بمعنى "صار " فإنما يعنون صار الناقصة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ نافع ويعقوب : "فيكون طائرا " هنا وفي المائدة ، والباقون : "طيرا " في الموضعين . فأما قراءة نافع فوجهها بعضهم بأن المعنى على التوحيد ، والتقدير : فيكون ما أنفخ فيه طائرا ، ولا يعترض عليه بأن الرسم الكريم إنما هو "طير " دون ألف ، لأن الرسم يجوز حذف مثل هذه الألف تخفيفا ، ويدل على ذلك أنه رسم قوله تعالى : ولا طائر يطير بجناحيه : " [ ص: 197 ] ولا طير " دون ألف ، ولم يقرأه أحد إلا "طائر " بالألف ، فالرسم محتمل لا مناف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم كالشارح لما قدمته : "ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يخلق غير الخفاش " . وزعم آخرون أن معنى قراءته : يكون كل واحد مما أنفخ فيه طائرا ، قال : كقوله تعالى : فاجلدوهم ثمانين جلدة أي : اجلدوا كل واحد منهم ، وهو كثير في كلامهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الباقين فمعناها يحتمل أن يراد به اسم الجنس ، أي : جنس الطير ، فيحتمل أن يراد به الواحد فما فوقه ، ويحتمل أن يراد به الجمع ، ولا سيما عند من يرى أن "طيرا " صيغته جمع نحو : ركب وصحب وتجر جمع راكب وصاحب وتاجر وهو الأخفش ، وأما سيبويه فهي عنده أسماء جموع لا جموع صريحة ، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك في البقرة . وحسن قراءة الجماعة موافقته لما قبله في قوله : " من الطير " ولموافقة الرسم لفظا ومعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بإذن الله يجوز أن يتعلق بـ "طائرا " وهذا على قراءة نافع ، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به ، لأن طيرا اسم جنس فيتعلق بمحذوف على أنه صفة لطير ، أي : طيرا ملتبسا بإذن الله أي : بتمكينه وإقراره . وقال أبو البقاء : "متعلق بيكون " ، وهذا إنما يظهر إذا جعل "كان " تامة ، وأما إذا جعلها ناقصة ففي تعلق الظرف بها الخلاف المشهور .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأبرئ الأكمه وأبرئ عطف على "أخلق " فهو داخل في حيز "أني " ، ويقال : أبرأت زيدا من العاهة ومن الدين ، وبراتك من الدين [ ص: 198 ] بالتضعيف ، وبرئت من المرض أبرأ ، وبرأت أيضا ، وأما برئت من الدين ومن الذنب فبرئت لا غير . وقال الأصمعي : "برئت من المرض لغة تميم وبرأت لغة الحجاز " . وقال الراغب : "برأت من المرض وبرئت ، وبرأت من فلان " فظاهر هذا أنه لا يقال الوجهان : أعني فتح الراء وكسرها إلا في البراءة من المرض ونحوه ، وأما الدين والذنب ونحوهما فالفتح ليس إلا . والبراءة : التغصي من الشيء المكروه مجاوزته وكذلك : التبري والبرء .

                                                                                                                                                                                                                                      والأكمه : من ولد أعمى يقال : كمه يكمه كمها فهو أكمه قال رؤبة :

                                                                                                                                                                                                                                      1300 - فارتد عنها كارتداد الأكمه

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال كمهتها أنا أي : أعميتها . وقال الزمخشري والراغب وغيرهما : "الأكمه من ولد مطموس العين " . قال الزمخشري : "ولم يوجد في هذه الأمة أكمه غير قتادة صاحب التفسير " . وقال الراغب : "وقد يقال لمن ذهبت عينه : أكمه ، قال سويد :


                                                                                                                                                                                                                                      1301 - كمهت عيناه حتى ابيضتا      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 199 ] والبرص داء معروف وهو بياض يعتري الإنسان ، ولم تكن العرب تنفر من شيء نفرتها منه ، يقال : برص يبرص برصا ، أي : أصابه ذلك ، ويقال له : الوضح ، وفي الحديث : " وكان بها وضح "والوضاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له الأبرص ، ويقال للقمر : أبرص لشدة بياضه . وقال الراغب : " للنكتة التي عليه "وليس بظاهر ، فإن النكتة التي عليه سوداء ، والوزغ : سام أبرص لبياضه ، والتبريص : الذي يلمع لمعان البرص ويقارب البصيص .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بما تأكلون يجوز في " ما "أن تكون موصولة اسمية أو حرفية أو نكرة موصوفة ، فعلى الأول والثالث يحتاج إلى عائد بخلاف الثاني عند الجمهور ، وكذلك " ما "في قوله : " وما تدخرون "محتملة لما ذكر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأتى بهذه الخوارق الأربع بلفظ المضارع دلالة على تجدد ذلك كل وقت طلب منه ، وقيد قوله : " أني أخلق "إلى آخره " بإذن الله "لأنه خارق عظيم ، فأتى به دفعا لتوهم الإلهية ، ولم يأت به فيما عطف عليه في قوله : " وأبرئ " ، ثم قيد الخارق الثالث أيضا " بإذن الله "لأنه خارق عظيم أيضا ، وعطف عليه قوله : " وأنبئكم "من غير تقييد له منبهة على عظم ما قبله ودفعا لوهم من يتوهم فيه الإلهية ، أو يكون قد حذف القيد من المعطوفين اكتفاء به في الأول ، وما قدمته أحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      وتدخرون : قراءة العامة بدال مشددة مهملة ، وأصله تذتخرون تفتعلون من الذخر وهو التخبئة ، يقال : ذخر الشيء يذخره ذخرا فهو ذاخر ومذخور أي : خباه ، قال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 200 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1302 - لها أشارير من لحم تتمره     من الثعالي وذخر من أرانيها



                                                                                                                                                                                                                                      الذخر : فعل بمعنى المذخور نحو : الأكل بمعنى المأكول ، وبعض النحويين يصحف هذا البيت فيقول : " ووخز "بالواو والزاي ، وقوله : " من الثعالي وأرانيها "يريد : من الثعالب وأرانبها ، فأبدل الباء الموحدة ياء بثنتين من تحت ، ولما كان أصله " تذتخرون "اجتمعت الذال المعجمة مع التاء - أي تاء الافتعال - أبدلت تاء الافتعال دالا مهملة فالتقى بذلك متقاربان : الذال والدال ، فأدغم الذال المعجمة في المهملة فصار اللفظ : تدخرون كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قرأ السوسي في رواية عن أبي عمرو : تذدخرون بقلب تاء الافتعال دالا مهملة من غير إدغام ، وهو وإن كان جائزا إلا أن الإدغام هو الفصيح . وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السمال وأيوب السختياني "تذخرون " بسكون الذال المعجمة وفتح الخاء ، جاءوا به مجردا على فعل ، يقال : ذخرته أي : خبأته ، ومن العرب من يقلب تاء الافتعال في هذا النحو ذالا معجمة فيقول : اذخر ، يذخر بذال معجمة مشددة ، ومثله اذكر فهو مذكر ، وسيأتي إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء : "والأصل في تدخرون : تذتخرون ، إلا أن الذال مهجورة والتاء مهموسة فلم يجتمعا ، فأبدلت التاء دالا لأنها من مخرجها لتقرب من الذال ، ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت " . و " في بيوتكم " متعلق بتدخرون .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 201 ] قوله : إن في ذلك "ذلك " إشارة إلى جميع ما تقدم من الخوارق ، وأشير إليها بلفظ الإفراد وإن كانت جمعا في المعنى ، بتأويل "ما ذكر ما تقدم " . وقد تقدم أن في مصحف عبد الله وقراءته : "لآيات " بالجمع مراعاة لما ذكرته من معنى الجمع . وهذه الجملة تحتمل أن تكون من كلام عيسى وأن تكون من كلام الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      و إن كنتم مؤمنين جوابه محذوف أي : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية وتدبرتموها . وقدر بعضهم صفة محذوفة لآية ، أي لآية نافعة ، قال الشيخ : "حتى يتجه التعلق بهذا الشرط " وفيه نظر ، إذ يصح التعلق بالشرط دون تقدير هذه الصفة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية