الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى ما بيته أعداء المسلمين من خبال وأذى ينزلونه بهم إن اتخذوا منهم بطانة يلقون إليهم بالمودة ويكشفون سرائرهم لهم، وبين أن أولئك المنافقين تسوءهم مصلحة المؤمنين، وتسرهم مساءتهم، وأنه [ ص: 1387 ] لا علاج إلا أن تحذروهم وتصبروا عليهم، وتتقوا الله تعالى، وتصونوا أنفسكم عن تمكينهم من الأذى، وفي هذه الآيات يشير سبحانه إلى بعض صنيعهم في شديدة للمسلمين، وكيف كانوا يبثون الشك والفوضى في نفوس المجاهدين، مما جعل بعضهم يفكر في أن يفشل ويعجز وتخور عزيمته، ولقد أشار سبحانه في ذلك إلى غزوة أحد وغزوة بدر، فقال سبحانه: وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال هذه الآية وما تليها نزلت في غزوة أحد، إذ خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في السحر من السابع من شوال في السنة الثالثة من حجرة عائشة ، وأخذ يصف المؤمنين للقتال، ويقف كل فريق منهم في موقفه، وقد جعل الرماة من وراء المقاتلين، وأمرهم بأن يكونوا وراء ظهور المقاتلين ينضحون عنهم بالنبل، وقال لأميرهم: " انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك " وأمر الجيش كله ألا يتحرك إلا عندما يأذنه بالحركة، حتى إن أحد الأنصار استشرف للقتال وتمناه عندما رأى قريشا قد سرحت أفراسها وإبلها في زروع المسلمين، وقال: " أترعى زروع بني قيلة- يعني:الأنصار- ولما نضارب " .

                                                          وهذا مؤدى قوله تعالى: وإذ غدوت من أهلك ومعنى غدوت: أصبحت مبكرا مسارعا إلى تنظيم جيش المؤمنين جيش الله تعالى، والغدوة والغداة أول النهار، ويذكر الغدو والغداة أول النهار، ويذكر الغدو مقابلا بالآصال أي: وقت العصر وقبل المغرب، ومن ذلك قوله تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال وقوبلت الغداة بالعشي، ويطلق الغدو على الذهاب ويكون مقابلا للرواح، ومن ذلك قوله تعالى في الرياح: غدوها شهر ورواحها شهر ؛ وذلك لأن الذهاب عادة يكون في البكور، وتبوئ: معناه تسهل وتنظم وتثبت، وأصله من البواء وهو مساواة الأجزاء في المكان، وبوأت له مكانا: سويته، ومن ذلك قوله تعالى: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا [ ص: 1388 ] وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى: تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال أي: تسوي لهم بالتنظيم والترتيب مقاعد للقتال، فهي إذا تتضمن معنى التنظيم والتهيئة والاستعداد، ولقاء المشركين صفا واحدا، كأنهم بنيان مرصوص.

                                                          وهذا التنظيم إنما هو بيان مواقف القتال، وموضع كل فريق في الموقف الذي يقفه، ولكن النص السامي الكريم قال: " مقاعد للقتال " فعبر عن المواقف بالمقاعد للإشارة إلى وجوب الثبات والسكون، حتى لا يتحركوا إلا بأمر من القائد الأعظم وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد كان الثبات سبب النصر في غزوة أحد، والهزيمة كان سببها عدم الاستمرار في البقاء في مواقفهم، ذلك أن الرماة عندما رأوا المؤمنين قد انقضوا بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - على المشركين يقتلونهم ويزيلونهم عن مواقفهم، تركوا مواقفهم وذهبوا وراء المؤمنين يغنمون ويأخذون، فانقض عليهم من ورائهم فرسان المشركين، فتفرقوا، وهذا قوله تعالى: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ومن هنا كانت إصابة المسلمين في موقعة أحد.

                                                          " و الله سميع عليم " ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا النص السامي لبيان أنه تعالى مطلع على ما كان يجري بين المؤمنين وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من مشاورات، وما استقر عليه رأي كثرتهم، ثم نزوله عليه الصلاة والسلام عند رأي الكثرة، ثم عدول الكثرة إلى رأي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قول النبي لهم معتزما إمضاء ما قرروا أولا، وإن كان غير رأيه الذي مال إليه، ليعلمهم أن التردد ولو للصواب المحتمل ضرره أكثر من المضي ولو في الرأي المحتمل للخطأ، فإن صواب الحروب وخطأها، لا يتبين، وإن التردد فيها يقتل، والمضاء فيها ينصر، وبين بهذا التذييل أيضا أن الله- تعالى- عليم بخفايا القلوب، فهو يعلم ما تهم به قلوب المؤمنين، وما توسوس به قلوب المنافقين، وما يبثونه من روح الذعر والهلع في نفوس المؤمنين، وبحديثهم مستجابا في قلوب ضعفاء الإيمان، وهم الذين قال القرآن عنهم: " في قلوبهم مرض " .

                                                          [ ص: 1389 ] ولقد علم الله ما كان من المؤمنين والمنافقين من مناقشات عندما ساور المدينة المشركون في العام الثالث، وأرادوا أن يثأروا من الدماء التي أصابتهم في بدر، فقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ليستشيرهم في الأمر، أيخرجون إليهم، أم يبقون حتى يجيء العدو إليهم في الديار، فقال بعض المؤمنين: (أقم يا رسول الله بالمدينة، ولا تخرج إليهم، فو الله، ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين) . وعارض ذلك الرأي الأكثرون ممن لم يحضروا بدرا فقالوا: (اخرج بنا يا رسول الله إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم) . وما زال أولئك الذين لم يحضروا بدرا بالرسول حتى نزل عند رأيهم، وقد كان إلى الأول أميل. وتركهم وعاد إلى أهله ليلبس لأمة الحرب، فتلاوم المسلمون فيما بينهم، وقال قائلهم: بئسما صنعنا، نشير على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والوحي يأتيه؛ فلما جاء إليهم الرسول قالوا: اصنع يا رسول الله ما رأيت، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذو العزم: " ما كان لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " .

                                                          وقد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ألف من أصحابه، وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف، وكان مع المسلمين طائفة من المنافقين، على رأسهم عبد الله بن أبي ابن سلول، فرأى أن يحدث الخلل في الصفوف فرجع ومعه نحو ثلاثمائة ممن على شاكلته وضعاف الإيمان، وبرز تخاذله بأنه كان يرى ألا يخرج إليهم المؤمنون وأن يبقوا بالمدينة، ومنهم من زعم أنه لا قتال، وقالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم [ ص: 1390 ] وقد ظهرت عداوة المنافقين، وبرزت نياتهم، وتكشفت سرائرهم، حتى إن أعمى منهم قد مر النبي في بعض أصحابه بحائطه (أي: بستانه) فأخذ يحثو التراب في وجوههم، ويقول وقد أخذ حفنة بيده: لو أني أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك فابتدره القوم ليقتلوه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر " وفي وسط تلك الزوبعة التي أثارها المنافقون بانشقاقهم عن الجمع وعودتهم إلى المدينة ألقوا الرعب في قلوب بعض الضعفاء، حتى لقد هم بعض المؤمنين بالفشل، وهذا هو ما يشير إليه قوله تعالى:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية