الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                  قوله تعالى : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ) الآيات 11 - 20 .

                                                                                                                                                                  635 - أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقرئ قال : أخبرنا محمد بن أحمد بن علي المقرئ قال : أخبرنا أبو يعلى قال : أخبرنا أبو الربيع الزهراني قال : حدثنا فليح بن سليمان المدني ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله تعالى منه . قال الزهري : وكلهم حدثني بطائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا ، ووعيت عن كل واحد الحديث الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدق بعضا . ذكروا أن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . قالت عائشة - رضي الله عنها - : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي . فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك بعد ما نزلت آية الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي ، وأنزل فيه مسيرنا ، حتى فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوه ، وقفل ، ودنونا من المدينة ، أذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، ومشيت حتى جاوزت الجيش ، [ ص: 166 ] فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري ، فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت ، فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلون [ بي ] ، فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه .

                                                                                                                                                                  قالت عائشة : وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ، ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم ، وليس بها داع ، ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعوا إلي فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي [ ثم ] الذكواني قد عرس من وراء الجيش ، فأدلج ، فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني ، فعرفني حين رآني ، وقد كان يراني قبل أن يضرب علي الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة ، وهلك من هلك في ، وكان الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمتها شهرا ، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ، ثم يقول : " كيف تيكم ؟ " ، فذلك يحزنني ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نقهت ، وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع ، وهو متبرزنا ، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ، فانطلقت أنا وأم مسطح - وهي بنت أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئسما قلت ، أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ قالت : أي هنتاه ، أولم تسمعي ما قال ؟ قلت : وماذا قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي ، ودخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ فسلم ، ] ثم قال : " كيف تيكم ؟ " قلت : تأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأنا أريد حينئذ أن أتيقن الخبر من قبلهما ، فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت أبوي ، فقلت : يا أماه ، ما يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية ، هوني عليك ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، قالت : فقلت : سبحان الله ، أوقد تحدث الناس بهذا ؟ [ وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت : نعم ؟ ] . قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي ، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد ، حين استلبث الوحي ، يستشيرهما في فراق [ ص: 167 ] أهله ، فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود ، فقال : يا رسول الله ، هم أهلك ، وما نعلم إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال : لم يضيق الله تعالى عليك والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة ، فقال : " يا بريرة ، هل رأيت شيئا يريبك من عائشة ؟ " قالت بريرة : والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله . قالت : فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقال ، وهو على المنبر : " يا معشر المسلمين ، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا . ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا . وما كان يدخل على أهلي إلا معي " . فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : يا رسول الله ، أنا أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك . قالت : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية - فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله ، ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عم سعد بن معاذ ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه ، إنك لمنافق تجادل عن المنافقين . فثار الحيان من الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر ، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت . قالت : وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي . قالت : فبينما هما جالسان عندي ، وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها وجلست تبكي معي . قالت : فبينا نحن على ذلك ، إذ دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جلس ، ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء . قالت : فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ، ثم قال : " أما بعد يا عائشة ، فإنه بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ، ثم تاب ، تاب الله عليه " . قالت : فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته ، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال ، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت لأمي : أجيبي [ عني ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : والله لقد عرفت أنكم سمعتم هذا وقد استقر في نفوسكم فصدقتم به ، ولئن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقوني بذلك ، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا ما قال أبو يوسف : ( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ) قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي . قالت : وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله [ ص: 168 ] تعالى في بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا يبرئني الله تعالى بها . قالت : فوالله ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزله ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي ، من ثقل القول الذي أنزل عليه [ من الوحي ] ، قالت : فلما سري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سري عنه وهو يضحك ، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال : " أبشري يا عائشة ، أما والله لقد برأك الله " ، فقالت لي أمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله سبحانه وتعالى هو الذي برأني . قالت : فأنزل الله سبحانه وتعالى : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ) العشر الآيات : فلما أنزل الله تعالى هذه الآية في براءتي قال [ أبو بكر ] الصديق ، وكان ينفق على مسطح لقرابته ، وفقره - والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة : فأنزل الله تعالى : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ) إلى قوله ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) فقال أبو بكر : والله إني أحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كانت عليه ، وقال : لا أنزعها منه أبدا
                                                                                                                                                                  . رواه البخاري ، ومسلم ، كلاهما عن أبي الربيع الزهراني .

                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية