الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد .

استئناف بياني نشأ من قوله تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم المقتضي أن كون القرآن منزلا من عند الله أمر لا ريب فيه كما تقدم فينشأ في نفوس السامعين أن يقولوا : فما بال هؤلاء المجادلين في صدق نسبة القرآن إلى الله لم تقنعهم دلائل نزول القرآن من الله ، فأجيب بأنه ما يجادل في صدق القرآن إلا الذين كفروا بالله وإذ قد كان كفر المكذبين بالقرآن أمرا معلوما كان الإخبار عنهم [ ص: 82 ] بأنهم كافرون غير مقصود منه إفادة اتصافهم بالكفر ، فتعين أن يكون الخبر غير مستعمل في فائدة الخبر لا بمنطوقه ولا بمفهومه ، فإن مفهوم الحصر وهو : أن الذين آمنوا لا يجادلون في آيات الله كذلك أمر معلوم مقرر ، فيجوز أن يجعل المراد بالذين كفروا نفس المجادلين في آيات الله وأن المراد بكفرهم كفرهم بوحدانية الله بسبب إشراكهم ، فالمعنى : لا عجب في جدالهم بآيات الله فإنهم أتوا بما هو أعظم وهو الإشراك على طريقة قوله تعالى يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة .

ويجوز أن يجعل المراد بالذين كفروا جميع الكافرين بالله من السابقين والحاضرين ، أي ما الجدل في آيات الله إلا من شأن أهل الكفر والإشراك ، ومجادلة مشركي مكة شعبة من شعب مجادلة كل الكافرين ، فيكون استدلالا بالأعم على الخاص ، وعلى كلا الوجهين ترك عطف هذه الجملة على التي قبلها .

والمراد بالمجادلة هنا المجادلة بالباطل بقرينة السياق فمعنى ( في آيات الله ) في صدق آيات الله بقرينة قوله تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم فتعين تقدير مضاف دل عليه المقام كما دل قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام يجادلنا في قوم لوط ، على تقدير : في إهلاك قوم لوط ، فصيغة المفاعلة للمبالغة في الفعل من جانب واحد لإفادة التكرر مثل : سافر وعافاه الله ، وهم يتلونون في الاختلاق ويعاودون التكذيب والقول الزور من نحو قولهم ( أساطير الأولين ) ، ( سحر مبين ) ، ( قول كاهن ) ، ( قول شاعر ) لا ينفكون عن ذلك . ومن المجادلة توركهم على الرسول صلى الله عليه وسلم بسؤاله أن يأتيهم بآيات كما يقترحون ، نحو قولهم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا ينبوعا الآيات ، وقولهم لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا الآيات .

وقد كان لتعلق ( في ) الظرفية بالجدال ، ولدخوله على نفس الآيات دون أحوالها في قوله ما يجادل في آيات الله موقع عظيم من البلاغة لأن الظرفية تحوي جميع أصناف الجدال ، وجعل مجرور الحرف نفس الآيات دون تعيين نحو صدقها أو وقوعها أو صنفها ، فكان قوله ( في آيات الله ) جامعا للجدل بأنواعه [ ص: 83 ] ولمتعلق الجدل باختلاف أحواله والمراد الجدال بالباطل كما دل عليه تنظير حالهم بحال من قال فيهم ( وجادلوا بالباطل ) فإذا أريد الجدال بالحق يقيد فعل الجدال بما يدل عليه .

والمعنى : ما يجادل في آيات الله أنها من عند الله ، فإن القرآن تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا ، وإنما هو تلفيق وتستر عن عجزهم عن ذلك واعتصام بالمكابرة فمجادلتهم بعدما تقدم من التحدي دالة على تمكن الكفر منهم وأنهم معاندون وبذلك حصل المقصود من فائدة هذا وإلا فكونهم كفارا معلوم .

وإظهار اسم الجلالة في قوله ما يجادل في آيات الله دون أن يقول : في آياته ، لتفظيع أمرها بالصريح لأن ذكر اسم الجلالة مؤذن بتفظيع جدالهم وكفرهم وللتصريح بزيادة التنويه بالقرآن .

وفرع قوله فلا يغررك تقلبهم في البلاد على مضمون ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا لما علمت من أن مقتضى تلك الجملة أن المجادلين في آيات الله هم أهل الكفر ، وذلك من شأنه أن يثير في نفس من يراهم في متعة ونعمة أن يتساءل في نفسه كيف يتركهم الله على ذلك ويظن أنهم أمنوا من عذاب الله ، ففرع عليه الجواب فلا يغررك تقلبهم في البلاد أي إنما هو استدراج ومقدار من حلم الله ورحمته بهم وقتا ما ، أو أن معناه نحن نعلم أنهم يجادلون في آياتنا إصرارا على الكفر فلا يوهمك تقلبهم في البلاد أنا لا نؤاخذهم بذلك .

والغرور : ظن أحد شيئا حسنا وهو بضده يقال : غرك ، إذا جعلك تظن السيئ حسنا . ويكون التغرير بالقول أو بتحسين صورة القبيح .

والتقلب : اختلاف الأحوال ، وهو كناية عن تناول محبوب ومرغوب .

والبلاد : الأرض ، وأريد بها هنا الدنيا كناية عن الحياة .

والمخاطب بالنهي في قوله ( فلا يغررك يجوز أن يكون غير معين فيعم كل من شأنه أن يغره تقلب الذين كفروا في البلاد ، وعلى هذا يكون النهي جاريا [ ص: 84 ] على حقيقة بابه ، أي موجها إلى من يتوقع منه الغرور ، ومثله كثير في كلامهم ، قال كعب بن زهير

فلا يغرنك ما منت وما وعدت إن الأماني والأحلام تضليل

ويجوز أن يكون الخطاب موجها للنبيء صلى الله عليه وسلم على أن تكون صيغة النهي تمثيلية بتمثيل حال النبيء صلى الله عليه وسلم في استبطائه عقاب الكافرين بحال من غره تقلبهم في البلاد سالمين ، كقوله ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون .

والمعنى : لا يوهمنك تناولهم مختلف النعماء واللذات في حياتهم أننا غير مؤاخذينهم على جدالهم في آياتنا ، أو لا يوهمنك ذلك أننا لا نعلم ما هم عليه فلم نؤاخذهم به تنزيلا للعالم منزلة الجاهل في شدة حزن الرسول صلى الله عليه وسلم على دوام كفرهم ومعاودة أذاهم كقوله ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ، وفي معنى هذه قوله تعالى لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد وتقدمت في آل عمران .

التالي السابق


الخدمات العلمية