الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 107 ] ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه سبحانه وتعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب في دعائه أمورا سبعة :

                                                                                                                                                                                                                                            المطلوب الأول : طلب من الله نعمة الأمان وهو قوله : ( رب اجعل هذا البلد آمنا ) والابتداء بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات ، وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به ، وسئل بعض العلماء : الأمن أفضل أم الصحة ؟ فقال : الأمن أفضل ، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل ، ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت ، وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد .

                                                                                                                                                                                                                                            والمطلوب الثاني : أن يرزقه الله التوحيد ، ويصونه عن الشرك ، وهو قوله : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والمطلوب الثالث : قوله : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) فقوله : ( من ذريتي ) أي بعض ذريتي وهو إسماعيل ومن ولد منه . ( بواد ) هو وادي مكة ( غير ذي زرع ) أي ليس فيه شيء من زرع ، كقوله : ( قرءانا عربيا غير ذي عوج ) [ الزمر : 28 ] بمعنى لا يحصل فيه اعوجاج عند بيتك المحرم ، وذكروا في تسميته المحرم وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الله حرم التعرض له والتهاون به ، وجعل ما حوله حرما لمكانه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه كان لم يزل ممتنعا عزيزا يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : سمي محرما لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أنه حرم على الطوفان أي امتنع منه ، كما سمي عتيقا لأنه أعتق منه فلم يستعل عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : حرم موضع البيت حين خلق السماوات والأرض وحفه بسبعة من الملائكة ، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم ، فرفع إلى السماء السابعة .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : حرم على عباده أن يقربوه بالدماء والأقذار وغيرها . روي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت له [ ص: 108 ] إسماعيل عليه السلام ، فقالت سارة : كنت أرجو أن يهب الله لي ولدا من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي ، وقالت لإبراهيم : أبعدهما مني فنقلهما إلى مكة وإسماعيل رضيع ثم رجع ، فقالت هاجر : إلى من تكلنا ؟ فقال : إلى الله . ثم دعا الله تعالى بقوله : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد ) إلى آخر الآية ثم إنها عطشت وعطش الصبي فانتهت بالصبي إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عينا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله أم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عينا معينا " ، ثم إن إبراهيم عليه السلام عاد بعد كبر إسماعيل واشتغل هو مع إسماعيل برفع قواعد البيت . قال القاضي : أكثر الأمور المذكورة في هذه الحكاية بعيدة ؛ لأنه لا يجوز لإبراهيم عليه السلام أن ينقل ولده إلى حيث لا طعام ولا ماء مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة ، إلا إذا قلنا : إن الله أعلمه أنه يحصل هناك ماء وطعام . وأقول : أما ظهور ماء زمزم فيحتمل أن يكون إرهاصا لإسماعيل عليه السلام ؛ لأن ذلك عندنا جائز خلافا للمعتزلة وعند المعتزلة أنه معجزة لإبراهيم عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ربنا إني أسكنت ) واللام متعلقة بأسكنت أي أسكنت قوما من ذريتي وهم إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) وفيه مباحث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : قال الأصمعي : هوي يهوي هويا بالفتح إذا سقط من علو إلى سفل . وقيل : ( تهوي إليهم ) تريدهم ، وقيل : تسرع إليهم . وقيل : تنحط إليهم وتنحدر إليهم وتنزل ، يقال : هوي الحجر من رأس الجبل يهوي إذا انحدر وانصب ، وهوي الرجل إذا انحدر من رأس الجبل .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : أن هذا الدعاء جامع للدين والدنيا . أما الدين فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى الذهاب إلى تلك البلدة بسبب النسك والطاعة لله تعالى . وأما الدنيا فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى نقل المعاشات إليهم بسبب التجارات ، فلأجل هذا الميل يتسع عيشهم ، ويكثر طعامهم ولباسهم .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : كلمة ( من ) في قوله : ( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) تفيد التبعيض ، والمعنى : فاجعل أفئدة بعض الناس مائلة إليهم . قال مجاهد : لو قال : أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند . وقال سعيد بن جبير : لو قال : أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال : ( أفئدة من الناس ) فهم المسلمون .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وارزقهم من الثمرات ) وفيه بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : أنه لم يقل : وارزقهم الثمرات ، بل قال : ( وارزقهم من الثمرات ) وذلك يدل على أن المطلوب بالدعاء إيصال بعض الثمرات إليهم .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : يحتمل أن يكون المراد بإيصال الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات ، وإنما يكون المراد عمارة القرى بالقرب منها لتحصيل الثمار منها .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( لعلهم يشكرون ) وذلك يدل على أن المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات ، فإن إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن [ ص: 109 ] يتفرغوا لإقامة الصلوات وأداء الواجبات .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية