الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (52) قوله تعالى : منهم : فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بأحس ، و "من " لابتداء الغاية ، أي : ابتداء الإحساس من جهتهم . والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أي : الكفر حال كونه صادرا منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 207 ] والإحساس : الإدراك ببعض الحواس الخمس وهي : الذوق والشم واللمس والسمع والبصر ، يقال : أحسست الشيء وبالشيء ، وحسسته وحسست به ، ويقال : حسيت بإبدال سينه الثانية ياء ، وأحست بحذف أول سينه ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1307 - سوى أن العتاق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس



                                                                                                                                                                                                                                      قال سيبويه : "ومما شذ من المضاعف - يعني في الحذف - شبيه بباب أقمت وليس بمتلئب ، وذلك قولهم : أحست وأحسن ، يريدون : أحسست وأحسسن ، وكذلك يفعل بكل بناء بني الفعل فيه ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت : لم أحس لم تحذف " . وقيل : الإحساس : الوجود والرؤية يقال : هل أحسست صاحبك أي : وجدته أو رأيته .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : من أنصاري أنصار جمع نصير نحو : شريف وأشراف . وقال قوم : هو جمع "نصر " المراد به المصدر ، ويحتاج إلى حذف مضاف أي : من أصحاب نصرتي . و "إلى " على بابها ، وتتعلق بمحذوف ، لأنها حال تقديره : من أنصاري مضافين إلى الله ، كذا قدره أبو البقاء . وقال قوم : إن "إلى " بمعنى مع أي : مع الله ، قال الفراء : "وهو وجه حسن " . وإنما يجوز أن تجعل "إلى " في موضع مع إذا ضممت الشيء إلى الشيء ما لم يكن معه [ ص: 208 ] كقول العرب : "الذود إلى الذود إبل " أي : الذود ، بخلاف قولك : "قدم فلان ومعه مال كثير " فإنه لا يصلح أن تقول : وإليه مال ، وكذا تقول : "قدم فلان مع أهله " ولو قلت : "إلى أهله " لم يصح ، وجعلوا من ذلك أيضا قوله : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم . وقد رد أبو البقاء كونها بمعنى "مع " فقال : "وليس بشيء فإن " إلى "لا تصلح أن تكون بمعنى " مع "ولا قياس يعضده " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : "إلى " بمعنى اللام أي : من أنصاري لله ، كقوله : يهدي إلى الحق أي : للحق ، كذا قدره الفارسي . وقيل : بل ضمن "أنصاري " معنى الإضافة أي : من يضيف نفسه إلى الله في نصرتي ، فيكون "إلى الله " متعلقا بنفس أنصاري ، وقيل : متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في "أنصاري " أي : من أنصاري ذاهبا إلى الله ملتجئا إليه ، قاله الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : الحواريون جمع حواري وهو الناصر ، وهو مصروف وإن ماثل مفاعل ، لأن ياء النسب فيه عارضة ، ومثله حوالي وهو المحتال ، وهذان بخلاف : قماري وبخاتي ، فإنهما ممنوعان من الصرف ، والفرق أن الياء في حواري وحوالي عارضة بخلافها في : "قماري وبخاتي " فإنها موجودة قبل جمعها في قولك : قمري وبختي .

                                                                                                                                                                                                                                      والحواري : الناصر كما تقدم ، وذلك أن عيسى عليه السلام مر بقوم فاستنصرهم ودعاهم إلى الإيمان فتبعوه وكانوا قصارين للثياب ، فسمي كل من [ ص: 209 ] تبع نبيا ونصره : حواريا تسمية له باسم أولئك تشبيها بهم وإن لم يكن قصارا ، وفي الحديث عنه عليه السلام في الزبير : "ابن عمتي وحواري من أمتي " ومنه أيضا : " إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير " هذا معنى كلام أبي عبيدة وغيره من أهل اللغة . وقيل : الحواري هو صفوة الرجل وخالصته ، واشتقاقه من حرت الثوب أي : أخلصت بياضه بالغسل منه و سمي القصار حواريا لتنظيفه الثياب ، وفي التفسير : أن أتباع عيسى عليه السلام كانوا قصارين ، قال أبو عبيدة : "سمي أصحاب عيسى حواريين للبياض وكانوا قصارين ، قال الفرزدق :


                                                                                                                                                                                                                                      1308 - فقلت إن الحواريات معطبة     إذا تفتلن من تحت الجلابيب



                                                                                                                                                                                                                                      يعني النساء " . قلت : يعني أن النساء لبياضهن وصفاء لونهن لا سيما المترفهات يقال لهن الحواريات ، ولذلك قال الزمخشري : "والحواري صفوة الرجل وخالصته ، ومنه قيل للنساء الحضريات : الحواريات لخلوص ألوانهن ونظافتهن ، وأنشد لأبي جلدة اليشكري :


                                                                                                                                                                                                                                      1309 - فقل للحواريات يبكين غيرنا     ولا يبكنا إلا الكلاب النوابح



                                                                                                                                                                                                                                      انتهى . ومنه سميت الحور حورا لبياضهن ونظافتهن . والاشتقاق من [ ص: 210 ] الحور وهو تبييض الأثواب وغيرها . وقال الضحاك : " هم الغسالون ، وهم بلغة النبط : هواري بالهاء مكان الحاء " ، قال ابن الأنباري : " فمن قال بهذا القول قال : هذا حرف اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبط ، وهو قول مقاتل بن سليمان : إن الحواريين هم القصارون " . وقيل : هم المجاهدون كذا نقله ابن الأنباري وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      1310 - ونحن أناس تملأ البيض هامنا     ونحن الحواريون يوم نزاحف
                                                                                                                                                                                                                                      جماجمنا يوم اللقاء تراسنا     إلى الموت نمشي ليس فينا تجانف



                                                                                                                                                                                                                                      قال الواحدي : " والمختار من هذه الأقوال عند أهل اللغة أن هذا الاسم لزمهم للبياض " ، ثم ذكر ما ذكرته عن أبي عبيد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب : " حورت الشيء بيضته ودورته ، ومنه : الخبز الحواري ، والحواريون : أنصار عيسى ، وقيل : اشتقاقهم من حار يحور أي : رجع ، قال تعالى : إنه ظن أن لن يحور أي : لن يرجع ، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى ، يقال : حار يحور حورا أي : رجع ، وحار يحور حورا إذا تردد في مكان ، ومنه : حار الماء في الغدير ، وحار في أمره وتحير فيه وأصله : تحيور ، فقلبت الواو ياء فوزنه تفيعل لا تفعل ، إذ لو كان تفعل لقيل : تحور نحو : تجوز ، ومنه قيل للعود الذي عليه البكرة : محور لتردده ، ومحارة الأذن لظاهره المنقعر تشبيها بمحارة الماء لتردد الهواء بالصوت فيه كتردد الماء [ ص: 211 ] في المحارة ، والقوم في حور أي : في تردد إلى نقصان ، ومنه : "نعوذ بالله من الحور بعد الكور " وفيه تفسيران ، أحدهما : نعوذ بالله من التردد في الأمر بعد المضي فيه ، والثاني : نعوذ بالله من نقصان وتردد في الحال بعد الزيادة فيها . ويقال : حار بعد ما كار ، والمحاورة : المرادة في القول ، وكذلك التحاور والحوار ، ومنه : وهو يحاوره والله يسمع تحاوركما أي : ترادكما القول ، ومنه أيضا : كلمته فما رجع إلى حوار أو حوير أو محورة وما يعيش بحور أي : بعقل يرجع إليه ، والحور " : ظهور قليل بياض في العين من السواد ، وذلك نهاية الحسن في العين يقال منه : أحورت عينه ، والمذكر أحور ، والمؤنثة حوراء ، والجمع فيها حور ، نحو : حمر في جمع أحمر وحمراء ، وقيل : سميت الحور حورا لذلك وقيل : اشتقاقهم من نقاء القلب وخلوصه وصدقه ، قاله أبو البقاء ، وهو راجع للمعنى الأول من خلوص البياض ، فهو مجاز عن التنظيف من الآثام وما يشوب الدين .

                                                                                                                                                                                                                                      والياء في حواري وحوالي ليست للنسب بل زائدة كزيادتها في كرسي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة " الحواريون "بتشديد الياء في جميع القرآن ، وقرأ الثقفي والنخعي بتخفيفها في جميع القرآن ، قالوا : لأن التشديد ثقيل ، وكان قياس هذه القراءة أن يقال فيها : الحوارون ، وذلك أنه تستثقل الضمة على الياء المكسور ما قبلها فتنقل ضمة الياء إلى ما قبلها فتسكن الياء ، فيلتقي ساكنان [ ص: 212 ] فتحذف الياء لالتقاء الساكنين ، وهذا نحو : جاء القاضون ، الأصل : القاضيون ، ففعل به ما ذكر . قالوا : وإنما أقرت ضمة الياء عليها تنبيها على أن التشديد مراد لأن التشديد يحتمل الضمة كما ذهب الأخفش في " يستهزيون "إذ أبدل الهمزة ياء مضمومة ، وإنما بقيت الضمة تنبيها على الهمزة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية