الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد الكفار ذكر بعده شبههم في إنكار نبوته .

                                                                                                                                                                                                                                            فالشبهة الأولى : أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون ، وفيه احتمالات :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه عليه السلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون ، والدليل عليه قوله : ( ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين ) [ القلم : 52 ] وأيضا قوله : ( أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ) [ الأعراف : 184 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنهم كانوا يستبعدون كونه رسولا حقا من عند الله تعالى ، فالرجل إذا سمع كلاما مستبعدا من غيره فربما قال له : هذا جنون وأنت مجنون لبعد ما يذكره من طريقة العقل ، وقوله : ( إنك لمجنون ) في هذه الآية يحتمل الوجه ين .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) ففيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنهم ذكروه على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون : ( إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ) [ الشعراء : 27 ] وكما قال قوم شعيب : ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) [ هود : 87 ] وكما قال تعالى : ( فبشرهم بعذاب أليم ) [ آل عمران : 21 ] لأن البشارة [ ص: 126 ] بالعذاب ممتنعة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : ( ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) في زعمه واعتقاده ، وعند أصحابه وأتباعه . ثم حكى عنهم أنهم قالوا في تقرير شبههم : ( لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : المراد لو كنت صادقا في ادعاء النبوة لأتيتنا بالملائكة يشهدون عندنا بصدقك فيما تدعيه من الرسالة ؛ لأن المرسل الحكيم إذا حاول تحصيل أمر ، وله طريق يفضي إلى تحصيل ذلك المقصود قطعا ، وطريق آخر قد يفضي وقد لا يفضي ، ويكون في محل الشكوك والشبهات ، فإن كان ذلك الحكيم أراد تحصيل ذلك المقصود فإنه يحاول تحصيله بالطريق الأول لا بالطريق الثاني ، وإنزال الملائكة الذين يصدقونك ، ويقررون قولك طريق يفضي إلى حصول هذا المقصود قطعا ، والطريق الذي تقرر به صحة نبوتك طريق في محل الشكوك والشبهات ، فلو كنت صادقا في ادعاء النبوة لوجب في حكمة الله تعالى إنزال الملائكة الذين يصرحون بتصديقك ، وحيث لم تفعل ذلك علمنا أنك لست من النبوة في شيء ، فهذا تقرير هذه الشبهة ، ونظيرها قوله تعالى في سورة الأنعام : ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ) [ الأنعام : 8 ] وفيه احتمال آخر : وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب إن لم يؤمنوا به ، فالقوم طالبوه بنزول العذاب وقالوا له : ( لو ما تأتينا بالملائكة ) الذين ينزلون عليك ينزلون علينا بذلك العذاب الموعود ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : ( ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب ) [ العنكبوت : 53 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله : ( ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ) فنقول : إن كان المراد من قولهم : ( لو ما تأتينا بالملائكة ) هو الوجه الأول كان تقرير هذا الجواب أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وعند حصول الفائدة ، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنه لو أنزل عليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم ، وعلى هذا التقرير فيصير إنزالهم عبثا باطلا ، ولا يكون حقا ، فلهذا السبب ما أنزلهم الله تعالى ، وقال المفسرون : المراد بالحق ههنا الموت ، والمعنى : أنهم لا ينزلون إلا بالموت ، وإلا بعذاب الاستئصال ، ولم يبق بعد نزولهم إنظار ولا إمهال ، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة ، فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة ، وأما إن كان المراد من قوله تعالى : ( لو ما تأتينا بالملائكة ) استعجالهم في نزول العذاب الذي كان الرسول عليه السلام يتوعدهم به ، فتقرير الجواب أن الملائكة لا تنزل إلا بعذاب الاستئصال ، وحكمنا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن لا نفعل بهم ذلك ، وأن نمهلهم لما علمنا من إيمان بعضهم ، ومن إيمان أولاد الباقين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الفراء والزجاج : لولا ولوما لغتان : معناهما : هلا ، ويستعملان في الخبر والاستفهام ، فالخبر مثل قولك : لولا أنت لفعلت كذا ، ومنه قوله تعالى : ( لولا أنتم لكنا مؤمنين ) [ سبأ : 31 ] ، والاستفهام كقولهم : ( لولا أنزل عليه ملك ) [ الأنعام : 8 ] وكهذه الآية . وقال الفراء : " لوما " الميم فيه بدل عن اللام في لولا ، ومثله استولى على الشيء واستومى عليه ، وحكى الأصمعي : خاللته وخالمته إذا صادقته ، وهو خلي وخلمي أي صديقي .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله : ( ما ننزل الملائكة إلا بالحق ) قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : ( ما ننزل ) بالنون وبكسر الزاي والتشديد ، والملائكة بالنصب لوقوع الإنزال عليها . والمنزل هو الله تعالى ، وقرأأبو بكر عن عاصم : " ما تنزل " عن فعل ما لم يسم فاعله ، والملائكة بالرفع . والباقون : " ما تنزل الملائكة " على إسناد فعل النزول إلى الملائكة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 127 ] المسألة الرابعة : قوله : ( وما كانوا إذا منظرين ) يعني : لو نزلت الملائكة لم ينظروا أي يمهلوا فإن التكليف يزول عند نزول الملائكة . قال صاحب " النظم " : لفظ إذن مركب من كلمتين : من " إذ " وهو اسم بمنزلة حين ، ألا ترى أنك تقول : أتيتك إذ جئتني أي حين جئتني . ثم ضم إليها " أن " ، فصار " إذ أن " . ثم استثقلوا الهمزة ، فحذفوها فصار إذن ، ومجيء لفظة إذن دليل على إضمار فعل بعدها ، والتقدير : وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا ، وهذا تأويل حسن .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أن القوم إنما قالوا : ( ياأيها الذي نزل عليه الذكر ) [ الحجر : 6 ] لأجل أنهم سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " إن الله تعالى نزل الذكر علي " ثم إنه تعالى حقق قوله في هذه الآية فقال : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            فأما قوله : ( إنا نحن نزلنا الذكر ) فهذه الصيغة وإن كانت للجمع إلا أن هذا من كلام الملوك عند إظهار التعظيم ؛ فإن الواحد منهم إذا فعل فعلا أو قال قولا قال : إنا فعلنا كذا وقلنا كذا ، فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الضمير في قوله : ( له لحافظون ) إلى ماذا يعود ؟ فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : أنه عائد إلى الذكر يعني : وإنا نحفظ ذلك الذكر من التحريف والزيادة والنقصان ، ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) [ فصلت : 42 ] وقال : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) [ النساء : 82 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله فلا خوف عليه ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أن حفظه قيضهم لذلك ، قال أصحابنا : وفي هذه الآية دلالة قوية على كون التسمية آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد بحفظ القرآن ، والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونا من الزيادة والنقصان ، فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كان القرآن مصونا عن التغيير ، ولما كان محفوظا عن الزيادة ، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أيضا أن يظن بهم النقصان ، وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن الكناية في قوله : ( له ) راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : وإنا لمحمد لحافظون وهو قول الفراء ، وقوى ابن الأنباري هذا القول فقال : لما ذكر الله الإنزال والمنزل دل ذلك على المنزل عليه فحسنت الكناية عنه ، لكونه أمرا معلوما كما في قوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ القدر : 1 ] فإن هذه الكناية عائدة إلى القرآن مع أنه لم يتقدم ذكره وإنما حسنت الكناية للسبب المعلوم فكذا ههنا ، إلا أن القول الأول أرجح القولين وأحسنهما مشابهة لظاهر التنزيل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : إذا قلنا : الكناية عائدة إلى القرآن فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن ؟ قال بعضهم : حفظه بأن جعله معجزا مباينا لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان عنه ؛ لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا عنه لتغير نظم القرآن فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن فصار كونه معجزا كإحاطة السور [ ص: 128 ] بالمدينة لأنه يحصنها ويحفظها ، وقال آخرون : إنه تعالى صانه وحفظه من أن يقدر أحد من الخلق على معارضته ، وقال آخرون : أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده بأن قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه ويشهرونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف ، وقال آخرون : المراد بالحفظ هو أن أحدا لو حاول تغييره بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا : هذا كذب وتغيير لكلام الله تعالى حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان : أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا وكذا ، فهذا هو المراد من قوله : ( وإنا له لحافظون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ ، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغيير إما في الكثير منه أو في القليل ، وبقاء هذا الكتاب مصونا عن جميع جهات التحريف ، مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات ، وأيضا أخبر الله تعالى عن بقائه محفوظا عن التغيير والتحريف ، وانقضى الآن قريبا من ستمائة سنة فكان هذا إخبارا عن الغيب ، فكان ذلك أيضا معجزا قاهرا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : احتج القاضي بقوله : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) على فساد قول بعض الإمامية في أن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان ، قال : لأنه لو كان الأمر كذلك لما بقي القرآن محفوظا ، وهذا الاستدلال ضعيف ، لأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ، فالإمامية الذين يقولون إن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان ، لعلهم يقولون إن هذه الآية من جملة الزوائد التي ألحقت بالقرآن ، فثبت أن إثبات هذا المطلوب بهذه الآية يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه وأنه باطل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية