الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأورثنا القوم يعني : بني إسرائيل الذين كانوا يستضعفون أي يذلون ويمتهنون بالخدمة لفرعون وقومه مشارق الأرض ومغاربها منصوبان بأورثنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكسائي والفراء : إن الأصل : في مشارق الأرض ومغاربها ثم حذفت في فنصبا ، والأول أظهر لأنه يقال : أورثته المال ، والأرض هي مصر والشام ، ومشارقها جهات مشرقها ومغاربها جهات مغربها ، وهي التي كانت لفرعون وقومه من القبط ، وقيل : المراد جميع الأرض; لأن داود وسليمان من بني إسرائيل ، وقد ملكا الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : التي باركنا فيها صفة للمشارق والمغارب ، وقيل : صفة الأرض ، والمباركة فيها إخراج الزرع والثمار منها على أتم ما يكون وأنفع ما ينفق .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وتمت كلمة ربك الحسنى أي مضت واستمرت على التمام والكلمة هي ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ( القصص : 5 ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا وعد من الله سبحانه بالنصر والظفر بالأعداء والاستيلاء على أملاكهم ، والحسنى : صفة للكلمة ، وهي تأنيث الأحسن ، وتمام هذه الكلمة على بني إسرائيل بسبب صبرهم على ما أصيبوا به من فرعون وقومه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه التدمير : الإهلاك : أي أهلكنا بالخراب ما كانوا يصنعونه من العمارات وما كانوا يعرشون قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم " يعرشون " بضم الراء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الكسائي : هي لغة تميم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة " يعرشون " بتشديد الراء وضم حرف المضارعة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الباقون بكسر الراء مخففة : أي ما كانوا يعرشونه من الجنات ، ومنه قوله تعالى : وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات وقيل : معنى يعرشون يبنون ، يقال : عرش يعرش : أي بنى يبني .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر جزناه بهم وقطعناه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ " جوزنا " بالتشديد ، وهو بمعنى قراءة الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قرأ حمزة والكسائي " يعكفون " بكسر الكاف ، وقرأ الباقون بضمها ، يقال : عكف يعكف : ويعكف بمعنى أقام على الشيء ولزمه ، والمصدر منهما عكوف ، قيل : هؤلاء القوم الذين أتاهم بنو إسرائيل هم من لخم كانوا نازلين بالرقة ، كانت أصنامهم تماثيل بقر ، وقيل : كانوا من الكنعانيين قالوا أي بنو إسرائيل عند مشاهدتهم لتلك التماثيل ياموسى اجعل لنا إلها أي صنما نعبده كائنا كالذي لهؤلاء القوم فالكاف متعلق بمحذوف وقع صفة ل إلها ، فأجاب عليهم موسى ، و قال إنكم قوم تجهلون وصفهم بالجهل لأنهم قد شاهدوا من آيات الله ما يزجر من له أدنى علم عن طلب عبادة غير الله ، ولكن هؤلاء القوم : أعني بني إسرائيل أشد خلق الله عنادا وجهلا وتلونا ، وقد سلف في سورة البقرة بيان ما جرى منهم من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال لهم موسى : إن هؤلاء يعني القوم العاكفين على الأصنام متبر ما هم فيه التبار الهلاك ، وكل إناء منكسر فهو متبر : أي أن هؤلاء هالك ما هم فيه مدمر مكسر ، والذي هم فيه عبادة الأصنام أخبرهم بأن هذا الدين الذي هؤلاء القوم عليه هالك مدمر لا يتم منه شيء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وباطل ما كانوا يعملون أي ذاهب مضمحل جميع ما كانوا يعملونه من الأعمال مع عبادتهم للأصنام .

                                                                                                                                                                                                                                      قال في الكشاف : وفي إيقاع هؤلاء اسما ل إن وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لها ، واسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار ، وأنه [ ص: 497 ] لا يعدوهم ألبتة ، وأنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أغير الله أبغيكم إلها الاستفهام للإنكار والتوبيخ : أي كيف أطلب لكم غير الله إلها تعبدونه وقد شاهدتم من آياته العظام ما يكفي البعض منه ؟ والمعنى : أن هذا الذي طلبتم لا يكون أبدا ، وإدخال الهمزة على غير للإشعار بأن المنكر هو كون المبتغى غيره سبحانه إلها ، وغير مفعول للفعل الذي بعده ، وإلها تمييز أو حال ، وجملة وهو فضلكم على العالمين في محل نصب على الحال : أي والحال أنه فضلكم على العالمين من أهل عصركم بما أنعم به عليكم من إهلاك عدوكم واستخلافكم في الأرض وإخراجكم من الذل والهوان إلى العز والرفعة فكيف تقابلون هذه النعم بطلب عبادة غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وإذ أنجيناكم من آل فرعون أي واذكروا وقت إنجائنا لكم من آل فرعون بعد أن كانوا مالكين لكم يستعبدونكم فيما يريدونه منكم ويمتهنونكم بأنواع الامتهانات ، هذا على أن هذا الكلام محكي عن موسى ، وأما إذا كان في حكم الخطاب لليهود الموجودين في عصر محمد فهو بمعنى اذكروا إذ أنجينا أسلافكم من آل فرعون ، وجملة يسومونكم سوء العذاب في محل نصب على الحال : أي أنجيناكم من آل فرعون حال كونهم يسومونكم سوء العذاب ، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما كانوا فيه مما أنجاهم منه ، وجملة يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم مفسرة للجملة التي قبلها ، أو بدل منها ، وقد سبق بيان ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      والإشارة بقوله : وفي ذلكم إلى العذاب : أي في هذا العذاب الذي كنتم فيه بلاء عليكم من ربكم عظيم وقيل : الإشارة إلى الإنجاء ، والبلاء النعمة ، والأول أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن في قوله : مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها قال : الشام وأخرج هؤلاء عن قتادة ، مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن عساكر ، عن زيد بن أسلم نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن عبد الله بن شوذب قال : هي فلسطين ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في فضل الشام أحاديث ليس هذا موضع ذكرها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : وتمت كلمة ربك الحسنى قال : ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض وما ورثهم منها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : وما كانوا يعرشون قال : يبنون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قال : لخم وجذام .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي عمران الجوني مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريج في الآية قال : تماثيل بقر من نحاس ، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر ، فذلك كان أول شأن العجل ليكون لله عليهم الحجة فينتقم منهم بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ، وصححه والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل حنين فمررنا بسدرة ، فقلت : يا رسول الله اجعل لنا هذه ذوات أنواط كما للكفار ذوات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ، والطبراني وابن مردويه ، من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعا ، وكثير ضعيف جدا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : متبر قال : خسران .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه قال : هلاك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية