الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 335 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      سورة طه

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : إن الساعة آتية أكاد أخفيها .

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الآية الكريمة يتوهم منها أنه جل وعلا لم يخفها بالفعل ولكنه قارب أن يخفيها لأن كاد فعل مقاربة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جاء في آيات أخر التصريح بأنه أخفاها كقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة الآية [ 31 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وكقوله : قل إنما علمها عند ربي [ 7 \ 187 ] وقوله : فيم أنت من ذكراها [ 79 \ 43 ] إلى غير ذلك من الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب من سبعة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : وهو الراجح ، أن معنى الآية : أكاد أخفيها من نفسي ، أي لو كان ذلك يمكن ، وهذا على عادة العرب ، لأن القرءان نزل بلغتهم ، والواحد منهم إذا أراد المبالغة في كتمان أمر قال : كتمته من نفسي ، أي لا أبوح لأحد ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      أيام تصحبني هند وأخبرها ما كدت أكتمه عني من الخبر

                                                                                                                                                                                                                                      ونظير هذا من المبالغة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله : رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وهذا القول مروي عن أكثر المفسرين ، وممن قال به ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح كما نقله عنهم ابن جرير وجعفر الصادق ، كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ، ويؤيد هذا القول أن في مصحف أبي : " أكاد أخفيها من نفسي " ، [ ص: 336 ] كما نقله الألوسي وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن خالويه أنها في مصحف أبي كذلك بزيادة : " فكيف أظهركم عليها " ، وفي بعض القراءات بزيادة : " فكيف أظهرها لكم " وفي مصحف عبد الله بن مسعود بزيادة : " فكيف يعلمها مخلوق " كما نقله الألوسي وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن معنى الآية أكاد أخفيها أي أخفي الأخبار بأنها آتية ، والمعنى أقرب أن أترك الإخبار عن إتيانها من أصله لشدة إخفائي لتعيين وقت إتيانها .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث : أن الهمزة في قوله : أخفيها ، هي همزة السلب لأن العرب كثيرا ما تجعل الهمزة أداة لسلب الفعل ، كقولهم : شكا إلي فلان فأشكيته أي أزلت شكايته ، وقولهم : عقل البعير فأعقلته ، أي أزلت عقاله .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا فالمعنى : أكاد أخفيها أي أزيل خفاءها بأن أظهرها لقرب وقتها ، كما قال تعالى : اقتربت الساعة الآية [ 54 ] ، وهذا القول مروي عن أبي علي ، كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ، ونقله النيسابوري في تفسيره عن أبي الفتح الموصلي .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه قول امرئ القيس بن عابس الكندي :


                                                                                                                                                                                                                                      فإن تدفنوا الداء لا نخفه     وإن تبعثوا الحرب لا نقعد

                                                                                                                                                                                                                                      على رواية ضم النون من : لا نخفه ، وقد نقل ابن جرير في تفسير هذه الآية عن معمر بن المثنى أنه قال : أنشدنيه أبو الخطاب عن أهله في بلده بضم النون من : لا نخفه ، ومعناه : لا نظهره .

                                                                                                                                                                                                                                      أما على الرواية المشهورة بفتح النون من : لا نخفه ، فلا شاهد في البيت إلا على قراءة من قرأ : " أكاد أخفيها " بفتح الهمزة وممن قرأ بذلك أبو الدرداء وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وحميد ، وروي مثل ذلك عن ابن كثير وعاصم ، وإطلاق خفاه يخفيه بفتح الياء بمعنى أظهره إطلاق مشهور صحيح ، إلا أن القراءة به لا تخلو من شذوذ .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه البيت المذكور على رواية فتح النون وقول كعب بن زهير أو غيره :


                                                                                                                                                                                                                                      دأب شهرين ثم شهرا دميكا     بأريكين يخفيان غميرا

                                                                                                                                                                                                                                      أي يظهرانه . وقول امرئ القيس :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 337 ]

                                                                                                                                                                                                                                      خفاهن من إنفاقهن كأنما     خفاهن ودق من عشي مجلب

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الرابع : أن خبر كاد محذوف ، والمعنى على هذا القول أن الساعة آتية أكاد أظهرها ، فحذف الخبر ثم ابتدأ الكلام بقوله : أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى [ 20 \ 15 ] ، ونظير ذلك من كلام العرب قول ضابئ بن الحارث البرجمي :


                                                                                                                                                                                                                                      هممت ولم أفعل وكدت وليتني     تركت على عثمان تبكي حلائله

                                                                                                                                                                                                                                      يعني : وكدت أفعل .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الخامس : أن كاد تأتي بمعنى أراد ، وعليه فمعنى : أكاد أخفيها أريد أن أخفيها ، وإلى هذا القول ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم كما نقله عنهم الألوسي وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جني في المحتسب ، ومن مجيء كاد بمعنى أراد ، قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      كادت وكدت وتلك خير إرادة     لو عاد من لهو الصبابة ما مضى

                                                                                                                                                                                                                                      كما نقله الألوسي ، وقال بعض العلماء : إن من مجيء كاد بمعنى أراد قوله تعالى كذلك كدنا ليوسف [ 12 ] ، أي أردنا له كما ذكره النيسابوري وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه قول العرب لا أفعل كذا ولا أكاد أي لا أريد كما نقله بعضهم .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه السادس : أن كاد من الله تدل على الوجوب ، كما دلت عليه عسى في كلامه تعالى نحو : قل عسى أن يكون قريبا [ 17 \ 51 ] ، أي هو قريب .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا فمعنى : أكاد أخفيها أنا أخفيها .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه السابع : أن كاد صلة ، وعليه فالمعنى إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى الآية ، واستدل قائل هذا القول بقول زيد الخيل :


                                                                                                                                                                                                                                      سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه     فما أن يكاد قرنه يتنفس

                                                                                                                                                                                                                                      أي فما يتنفس قرنه ، قالوا : ومن هذا القبيل قوله تعالى : لم يكد يراها [ 24 \ 40 ] ، أي لم يرها ، وقول ذي الرمة :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 338 ]

                                                                                                                                                                                                                                      إذا غير النأي المحبين لم يكد     رسيس الهوى من حب مية يبرح

                                                                                                                                                                                                                                      أي لم يبرح على قول هذا القائل .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : ومن هذا المعنى قول أبي النجم :


                                                                                                                                                                                                                                      وإن أتاك نعي فاندبن أبا     قد كاد يطلع الأعداء والخطبا

                                                                                                                                                                                                                                      أي قد اطلع الأعداء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا أن أرجح الأقوال الأول ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي .

                                                                                                                                                                                                                                      لا يخفى أنه من سؤل موسى الذي قال له ربه إنه آتاه إياه بقوله : قال قد أوتيت سؤلك ياموسى [ 20 \ 36 ] ، وذلك صريح في حل العقدة من لسانه ، وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على بقاء شيء من الذي كان بلسانه كقوله تعالى عن فرعون : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 \ 52 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى عن موسى : وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي الآية [ 28 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، لم يسأل زوال ما كان بلسانه بالكلية ، وإنما سأل زوال القدر المانع من أن يفقهوا قوله ، كما يدل عليه قوله : يفقهوا قولي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني ، ما نصه : وما سأل أن يزول ذلك بالكلية ، بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه ، وهو قدر الحاجة ، ولو سأل الجميع لزال ، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت بقية ، قال تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 52 ] ، أي يفصح بالكلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن البصري : واحلل عقدة من لساني ، قال : حل عقدة واحدة ، ولو سأل أكثر من ذلك أعطي .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 339 ] وقال ابن عباس : شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون ردءا له ، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه سؤله ، فحل عقدة من لسانه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عمر بن عثمان ، حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر ، حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه ، قال : أتاه ذو قرابة له فقال له : ما بك بأس ، لولا أنك تلحن في كلامك ، ولست تعرب في قراءتك ، فقال القرظي : يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك ؟ قال نعم ، قال : فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل قوله ، ولم يزد عليها ، انتهى كلام ابن كثير بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد نقل فيه عن الحسن البصري وابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ما ذكرنا من الجواب ، ويمكن أن يجاب أيضا بأن فرعون كذب عليه في قوله : هو أفصح مني لسانا [ 28 ] ، يدل على اشتراكه مع هارون في الفصاحة ، فكلاهما فصيح ، إلا أن هارون أفصح ، وعليه فلا إشكال ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : فقولا إنا رسولا ربك الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      يدل على أنهما رسولان وهما موسى وهارون ، وقوله تعالى : فقولا إنا رسول رب العالمين [ 26 \ 16 ] ، يوهم كون الرسول واحدا .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن معنى قوله : إنا رسول رب العالمين أي كل واحد منا رسول رب العالمين ، كقول البرجمي : [ الطويل ]

                                                                                                                                                                                                                                      فإني وقيارا بها لغريب

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما ساغ هذا لظهور المراد من سياق الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن أصل الرسول مصدر كالقبول والولوع ، فاستعمل في الاسم فجاز جمعه ، وتثنيته نظرا إلى كونه بمعنى الوصف وساغ إفراده مع إرادة المثنى أو الجمع نظرا إلى أن الأصل من كونه مصدرا ، ومن إطلاق الرسول على غير المفرد ، قول الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 340 ]

                                                                                                                                                                                                                                      ألكني إليها وخير الرسو     ل أعلمهم بنواحي الخبر

                                                                                                                                                                                                                                      يعني وخير الرسل ، وإطلاق الرسول مرادا به المصدر كثير ، ومنه قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      لقد كذب الواشون ما فهت عندهم     بقول ولا أرسلتهم برسول

                                                                                                                                                                                                                                      يعني برسالة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : قال فمن ربكما يا موسى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : قال فمن ربكما يقتضي أن المخاطب اثنان ، وقوله : ياموسى : يقتضي أن المخاطب واحد ، والجواب من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن فرعون أراد خطاب موسى وحده ، والمخاطب إن اشترك معه في الكلام غير مخاطب غلب المخاطب على غيره ، كما لو خاطبت رجلا اشترك معه آخر في شأن والثاني غائب فإنك تقول للحاضر منهما : ما بالكما فعلتما كذا والمخاطب واحد ، وهذا ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء ، لكونه الأصل في الرسالة .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء لمطابقة رءوس الآي مع ظهور المراد ، ونظير الآية قوله تعالى : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 20 \ 117 ] ، ويجاب عنه بأن المرأة تبع لزوجها ، وبأن شقاء الكد والعمل يتولاه الرجال أكثر من النساء ، وبأن الخطاب لآدم وحده ، والمرأة ذكرت فيما خوطب به آدم بدليل قوله : إن هذا عدو لك ولزوجك [ 20 \ 117 ] فهي ذكرت فيما خوطب به آدم والمخاطب هو وحده ، ولذا قال : " فتشقى " لأن الخطاب لم يتوجه إليها هي ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي .

                                                                                                                                                                                                                                      ظاهر هذه الآية أن آدم ناس للعهد بالنهي عن أكل الشجرة ، لأن الشيطان قاسمه بالله أنه له ناصح حتى دلاه بغرور وأنساه العهد ، وعليه فهو معذور لا عاص .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 341 ] وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب عن هذا من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : هو ما قدمنا من عدم العذر بالنسيان لغير هذه الأمة .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن نسي بمعنى ترك ، والعرب ربما أطلقت النسيان بمعنى الترك ومنه قوله تعالى : فاليوم ننساهم الآية [ 7 \ 51 ] ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية