الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري ( 87 ) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ( 88 ) )

يقول تعالى ذكره : قال قوم موسى لموسى : ما أخلفنا موعدك ، يعنون بموعده عهده الذي كان عهده إليهم .

كما حدثني محمد بن عمرو ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى " ح " وحدثنا الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله ( موعدي ) قال : عهدي ، وذلك العهد والموعد هو ما بيناه قبل .

وقوله ( بملكنا ) يخبر جل ذكره عنهم أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ ، وقالوا : إنا لم نطق حمل أنفسنا على الصواب ، ولم نملك أمرنا حتى وقعنا في الذي وقعنا فيه من الفتنة .

وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة ( بملكنا ) بفتح الميم ، وقرأته عامة قراء الكوفة ( بملكنا ( بضم الميم ، وقرأه بعض أهل البصرة ( بملكنا ) بالكسر ، فأما الفتح والضم فهما بمعنى واحد ، وهما بقدرتنا وطاقتنا غير أن أحدهما مصدر ، والآخر اسم ، وأما الكسر فهو بمعنى ملك الشيء وكونه للمالك .

واختلف أيضا أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما أخلفنا موعدك بأمرنا .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا عبد الله قال : ثني [ ص: 352 ] معاوية عن علي عن ابن عباس قوله ( ما أخلفنا موعدك بملكنا ) يقول : بأمرنا .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله ( بملكنا ) قال : بأمرنا .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله .

وقال آخرون : معناه : بطاقتنا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة ( قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ) : أي بطاقتنا .

حدثنا موسى قال : ثنا عمرو قال : ثنا أسباط عن السدي ( قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ) يقول : بطاقتنا .

وقال آخرون : معناه : ما أخلفنا موعدك بهوانا ، ولكنا لم نملك أنفسنا .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ما أخلفنا موعدك بملكنا ) قال : يقول بهوانا ، قال : ولكنه جاءت ثلاثة ، قال ومعهم حلي استعاروه من آل فرعون ، وثياب .

وقال أبو جعفر : وكل هذه الأقوال الثلاثة في ذلك متقاربات المعنى ، لأن من لم يملك نفسه لغلبة هواه على ما أمر فإنه لا يمتنع في اللغة أن يقول : فعل فلان هذا الأمر ، وهو لا يملك نفسه وفعله ، وهو لا يضبطها وفعله وهو لا يطيق تركه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فسواء بأي القراءات الثلاث قرأ ذلك القارئ ، وذلك أن من كسر الميم من الملك ، فإنما يوجه معنى الكلام إلى ما أخلفنا موعدك ، ونحن نملك الوفاء به لغلبة أنفسنا إيانا على خلافه ، وجعله من قول القائل : هذا ملك فلان ، لما يملكه من المملوكات ، وأن من فتحها ، فإنه يوجه معنى الكلام إلى نحو ذلك ، غير أنه يجعله مصدرا من قول القائل : ملكت الشيء أملكه ملكا وملكة ، كما يقال : غلبت فلانا أغلبه غلبا وغلبة ، وأن من ضمها فإنه وجه معناه إلى ما أخلفنا موعدك بسلطاننا وقدرتنا ، أي ونحن نقدر [ ص: 353 ] أن نمتنع منه ، لأن كل من قهر شيئا فقد صار له السلطان عليه ، وقد أنكر بعض الناس قراءة من قرأه بالضم ، فقال : أي ملك كان يومئذ لبني إسرائيل ، وإنما كانوا بمصر مستضعفين ، فأغفل معنى القوم وذهب غير مرادهم ذهابا بعيدا ، وقارئو ذلك بالضم لم يقصدوا المعنى الذي ظنه هذا المنكر عليهم ذلك ، وإنما قصدوا إلى أن معناه : ما أخلفنا موعدك بسلطان كانت لنا على أنفسنا نقدر أن نردها عما أتت ، لأن هواها غلبنا على إخلافك الموعد .

وقوله ( ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم ) يقول : ولكنا حملنا أثقالا وأحمالا من زينة القوم ، يعنون من حلي آل فرعون ، وذلك أن بني إسرائيل لما أراد موسى أن يسير بهم ليلا من مصر بأمر الله إياه بذلك ، أمرهم أن يستعيروا من أمتعة آل فرعون وحليهم ، وقال : إن الله مغنمكم ذلك ، ففعلوا ، واستعاروا من حلي نسائهم وأمتعتهم ، فذلك قولهم لموسى حين قال لهم ( أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم ) فهو ما كان مع بني إسرائيل من حلي آل فرعون ، يقول : خطؤنا بما أصبنا من حلي عدونا .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله ( أوزارا ) قال : أثقالا . وقوله ( من زينة القوم ) قال : هي الحلي التي استعاروا من آل فرعون ، فهي الأثقال .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد ( ولكنا حملنا أوزارا ) قال : أثقالا ( من زينة القوم ) قال : حليهم .

حدثنا موسى قال : ثنا عمرو قال : ثنا أسباط عن السدي ( ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم ) يقول : من حلي القبط . [ ص: 354 ] حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم ) قال : الحلي الذي استعاروه والثياب ليست من الذنوب في شيء ، لو كانت الذنوب كانت حملناها نحملها ، فليست من الذنوب في شيء .

واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأ عامة قراء المدينة وبعض المكيين ( حملنا ) بضم الحاء وتشديد الميم بمعنى أن موسى يحملهم ذلك ، وقرأته عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض المكيين ( حملنا ) بتخفيف الحاء والميم وفتحهما ، بمعنى أنهم حملوا ذلك من غير أن يكلفهم حمله أحد .

قال أبو جعفر : والقول عندي في تأويل ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، لأن القوم حملوا ، وأن موسى قد أمرهم بحمله ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب .

وقوله ( فقذفناها ) يقول : فألقينا تلك الأوزار من زينة القوم في الحفرة ( فكذلك ألقى السامري ) يقول : فكما قذفنا نحن تلك الأثقال ، فكذلك ألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله ( فقذفناها ) قال : فألقيناها ( فكذلك ألقى السامري ) : كذلك صنع .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد ( فقذفناها ) قال : فألقيناها ( فكذلك ألقى السامري ) فكذلك صنع .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة ( فقذفناها ) : أي فنبذناها .

وقوله ( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ) يقول : فأخرج لهم السامري مما قذفوه ومما ألقاه عجلا جسدا له خوار ، ويعني بالخوار الصوت ، وهو صوت البقر .

[ ص: 355 ] ثم اختلف أهل العلم في كيفية إخراج السامري العجل ، فقال بعضهم : صاغه صياغة ، ثم ألقى من تراب حافر فرس جبرائيل في فمه فخار .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة ( فكذلك ألقى السامري ) قال : كان الله وقت لموسى ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر ، فلما مضت الثلاثون قال عدو الله السامري : إنما أصابكم الذي أصابكم عقوبة بالحلي الذي كان معكم ، فهلموا وكانت حليا تعيروها من آل فرعون ، فساروا وهي معهم ، فقذفوها إليه ، فصورها صورة بقرة ، وكان قد صر في عمامته أو في ثوبه قبضة من أثر فرس جبرائيل ، فقذفها مع الحلي والصورة ( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ) فجعل يخور خوار البقر ، فقال ( هذا إلهكم وإله موسى ) .

حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة قال : لما استبطأ موسى قومه قال لهم السامري : إنما احتبس عليكم لأجل ما عندكم من الحلي ، وكانوا استعاروا حليا من آل فرعون فجمعوه فأعطوه السامري فصاغ منه عجلا ثم أخذ القبضة التي قبض من أثر الفرس ، فرس الملك ، فنبذها في جوفه ، فإذا هو عجل جسد له خوار ، قالوا : هذا إلهكم وإله موسى ، ولكن موسى نسي ربه عندكم .

وقال آخرون في ذلك بما حدثني موسى قال : ثنا عمرو قال : قال : ثنا أسباط عن السدي قال : أخذ السامري من تربة الحافر ، حافر فرس جبرائيل ، فانطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل وواعدهم ثلاثين ليلة ، فأتمها الله بعشر ، قال لهم هارون : يا بني إسرائيل إن الغنيمة لا تحل لكم ، وإن حلي القبط إنما هو غنيمة ، فاجمعوها جميعا ، فاحفروا لها حفرة فادفنوها ، فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها ، وإلا كان شيئا لم تأكلوه ، فجمعوا ذلك الحلي في تلك الحفرة ، فجاء السامري بتلك القبضة فقذفها فأخرج الله من الحلي عجلا جسدا له خوار ، وعدت بنو إسرائيل موعد موسى ، فعدوا الليلة يوما ، واليوم [ ص: 356 ] يوما ، فلما كان لعشرين خرج لهم العجل ، فلما رأوه قال لهم السامري ( هذا إلهكم وإله موسى فنسي ) فعكفوا عليه يعبدونه ، وكان يخور ويمشي ( فكذلك ألقى السامري ) ذلك حين قال لهم هارون : احفروا لهذا الحلي حفرة واطرحوه فيها ، فطرحوه ، فقذف السامري تربته ، وقوله : ( فقالوا هذا إلهكم وإله موسى ) يقول : فقال قوم موسى الذين عبدوا العجل : هذا معبودكم ومعبود موسى ، وقوله ( فنسي ) يقول : فضل وترك .

ثم اختلف أهل التأويل في قوله ( فنسي ) من قائله ومن الذي وصف به وما معناه ، فقال بعضهم : هذا من الله خبر عن السامري والسامري هو الموصوف به ، وقالوا : معناه : أنه ترك الدين الذي بعث الله به موسى وهو الإسلام .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال : ثني محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يقول الله ( فنسي ) : أي ترك ما كان عليه من الإسلام ، يعني : السامري .

وقال آخرون : بل هذا خبر من الله عن السامري أنه قال لبني إسرائيل ، وأنه وصف موسى بأنه ذهب يطلب ربه ، فأضل موضعه ، وهو هذا العجل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ( فقذفناها ) يعني زينة القوم حين أمرنا السامري لما قبض قبضة من أثر جبرائيل عليه السلام ، فألقى القبضة على حليهم فصار عجلا جسدا له خوار ( فقالوا هذا إلهكم وإله موسى ) الذي انطلق يطلبه ( فنسي ) يعني : نسي موسى ، ضل عنه فلم يهتد له .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة ( فنسي ) يقول : طلب هذا موسى فخالفه الطريق .

حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة ( فنسي ) يقول : قال السامري : موسى نسي ربه عندكم .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن [ ص: 357 ] مجاهد قوله ( فنسي ) موسى ، قال : هم يقولونه : أخطأ الرب العجل .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد ( فنسي ) قال : نسي موسى ، أخطأ الرب العجل ، قوم موسى يقولونه .

حدثني موسى قال : ثنا عمرو قال : ثنا أسباط عن السدي ( فنسي ) يقول : ترك موسى إلهه هاهنا وذهب يطلبه .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( هذا إلهكم وإله موسى فنسي ) قال : يقول : فنسي حيث وعده ربه هاهنا ، ولكنه نسي .

حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( هذا إلهكم وإله موسى فنسي ) يقول : نسي موسى ربه فأخطأه ، وهذا العجل إله موسى .

قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن هؤلاء ، وهو أن ذلك خبر من الله عز ذكره عن السامري أنه وصف موسى بأنه نسي ربه ، وأنه ربه الذي ذهب يريده هو العجل الذي أخرجه السامري لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه ، وأنه عقيب ذكر موسى ، وهو أن يكون خبرا من السامري عنه بذلك أشبه من غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية