الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ سجدات المفصل والحج ]

المثال الثامن والستون : رد السنة الثابتة في إثبات سجدات المفصل ، والسجدة الأخيرة من سورة الحج ، كما روى أبو داود في السنن : حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرقي ثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا نافع بن يزيد عن الحارث بن سعيد العتقي عن عبد الله بن منير { عن عمرو بن العاص : أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المفصل ، وفي سورة الحج سجدتان } .

تابعه محمد بن إسماعيل السلمي عن سعيد بن أبي مريم ، وقال ابن وهب : ثنا ابن لهيعة عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فضلت سورة الحج بسجدتين ، فمن لم يسجد فيهما فلا يقرأهما } .

وحديث ابن لهيعة يحتج منه بما رواه عنه العبادلة كعبد الله بن وهب وعبد الله بن المبارك [ ص: 294 ] وعبد الله بن يزيد المقري .

قال أبو زرعة : ابن لهيعة كان ابن المبارك وابن وهب يتبعان أصوله ، وقال عمرو بن علي : من كتب عنه قبل احتراق كتبه مثل ابن المبارك وابن المقري أصح ممن كتب عنه بعد احتراقها . وقال ابن وهب : كان ابن لهيعة صادقا ، وقد انتقى النسائي هذا الحديث من جملة حديثه ، وأخرجه ، واعتمده ، وقال : ما أخرجت من حديث ابن لهيعة قط إلا حديثا واحدا أخبرناه هلال بن العلاء ثنا معافى بن سليمان عن موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث عن ابن لهيعة ، فذكره . وقال ابن وهب : حدثني الصادق البار والله عبد الله بن لهيعة ، وقال الإمام أحمد : من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه ؟ وقال ابن عيينة : كان عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع . وقال أبو داود : سمعت أحمد يقول : ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة ، وقال أحمد بن صالح الحافظ : كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طالبا للعلم . وقال ابن حبان : كان صالحا لكنه يدلس عن الضعفاء ، ثم احترقت كتبه ، وكان أصحابنا يقولون : سماع من سمع منه قبل احتراق كتبه مثل العبادلة ابن وهب وابن المبارك والمقري والقعنبي فسماعهم صحيح .

وقد صح عن { أبي هريرة أنه سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم في : { إذا السماء انشقت } وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد في النجم } ذكره البخاري .

فردت هذه السنن برأي فاسد وحديث ضعيف : أما الرأي فهو أن آخر الحج السجود فيها سجود الصلاة لاقترانه بالركوع ، بخلاف الأولى ; فإن السجود فيها مجرد عن ذكر الركوع ، ولهذا لم يكن قوله تعالى : { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } من مواضع السجدات بالاتفاق .

وأما الحديث الضعيف فما رواه أبو داود : ثنا محمد بن رافع ثنا أزهر بن القاسم ثنا أبو قدامة عن مطر الوراق عن عكرمة عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم : لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة } .

فأما الرأي فيدل على فساده وجوه :

منها أنه مردود بالنص ، ومنها أن اقتران الركوع بالسجود في هذا الموضع لا يخرجه عن كونه موضع سجدة ، كما أن أقترانه بالعبادة التي هي أعم من الركوع لا يخرجه عن كونه سجدة ، وقد صح سجوده صلى الله عليه وسلم في النجم ، وقد قرن السجود فيها بالعبادة كما قرنه بالعبادة في سورة الحج ، والركوع لم يزده إلا تأكيدا ، ومنها أن أكثر السجدات المذكورة في القرآن متناولة لسجود الصلاة ; فإن قوله تعالى : { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها } يدخل فيه سجود المصلين قطعا ، [ ص: 295 ] وكيف لا وهو أجل السجود وأفرضه ؟

وكيف لا يدخل هو في قوله : { فاسجدوا لله واعبدوا } وفي قوله : { كلا لا تطعه واسجد واقترب } وقد قال قبل : { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } ثم قال : { كلا لا تطعه واسجد واقترب } فأمره بأن يفعل هذا الذي نهاه عنه عدو الله ، فإرادة سجود الصلاة بآية السجدة لا تمنع كونها سجدة ، بل تؤكدها وتقويها .

يوضحه أن مواضع السجدات في القرآن نوعان : إخبار ، وأمر ; فالإخبار خبر من الله تعالى عن سجود مخلوقاته له عموما أو خصوصا ، فسن للتالي والسامع وجوبا أو استحبابا أن يتشبه بهم عند تلاوة آية السجدة أو سماعها ، وآيات الأوامر بطريق الأولى . وهذا لا فرق فيه بين أمر وأمر ، فكيف يكون الأمر بقوله : { فاسجدوا لله واعبدوا } : مقتضيا للسجود دون الأمر بقوله : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } فالساجد إما متشبه بمن أخبر عنه ، أو ممتثل لما أمر به ، وعلى التقديرين يسن له السجود في آخر الحج كما يسن له السجود في أولها ; فلما سوت السنة بينهما سوى القياس الصحيح والاعتبار الحق بينهما .

وهذا السجود شرعه الله ورسوله عبودية عند تلاوة هذه الآيات واستماعها ، وقربة إليه ، وخضوعا لعظمته ، وتذللا بين يديه ، واقتران الركوع ببعض آياته مما يؤكد ذلك ، ويقويه ، لا يضعفه ويوهيه ، والله المستعان .

وأما قوله تعالى : { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } فإنما لم يكن موضع سجدة لأنه خبر خاص عن قول الملائكة لامرأة بعينها أن تديم العبادة لربها بالقنوت وتصلي له بالركوع والسجود ; فهو خبر عن قول الملائكة لها ذلك ، وإعلام من الله تعالى لنا أن الملائكة قالت ذلك لمريم .

فسياق ذلك غير سياق آيات السجدات

. وأما الحديث الضعيف فإنه من رواية أبي قدامة - واسمه الحارث بن عبيد - قال الإمام أحمد رضي الله عنه : هو مضطرب الحديث ، وقال يحيى : ليس بشيء ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وقال الأزدي : ضعيف ، وقال ابن حبان : لا يحتج به إذا انفرد ، قلت : وقد أنكر عليه هذا الحديث وهو موضع الإنكار ; فإن أبا هريرة رضي الله عنه شهد سجوده صلى الله عليه وسلم في المفصل في : { إذا السماء انشقت } و { اقرأ باسم ربك الذي خلق } . ذكره مسلم في صحيحه ، وسجد معه ، حتى لو صح خبر أبي قدامة هذا لوجب تقديم خبر أبي هريرة عليه ; لأنه مثبت فمعه زيادة علم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية