الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 139 ] كتاب الغصب الغصب : هو الاستيلاء على مال غيره بغير حق . وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع . أما الكتاب فقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } . وقوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } . وقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا } .

                                                                                                                                            والسرقة نوع من الغصب . وأما السنة ، فروى جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر : { إن دماءكم وأموالكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا } . رواه مسلم ، وغيره . وعن سعيد بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من أخذ شبرا من الأرض ظلما ، طوقه من سبع أرضين } . متفق عليه .

                                                                                                                                            وروى أبو حرة الرقاشي ، عن عمه وعمرو بن يثربي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يحل مال امرئ مسلم ، إلا بطيب نفس منه } . رواه أبو إسحاق الجوزجاني . وأجمع المسلمون على تحريم الغصب في الجملة ، وإنما اختلفوا في فروع منه .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فمن غصب شيئا لزمه رده ، ما كان باقيا ، بغير خلاف نعلمه . لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { على اليد ما أخذت حتى تؤديه } . ولأن حق المغصوب منه متعلق بعين ماله وماليته ، ولا يتحقق ذلك إلا برده . فإن تلف في يده ، لزمه بدله ; لقول الله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .

                                                                                                                                            ولأنه لما تعذر رد العين ، وجب رد ما يقوم مقامها في المالية . ثم ينظر ; فإن كان مما تتماثل أجزاؤه ، وتتفاوت صفاته ، كالحبوب والأدهان ، وجب مثله ، لأن المثل أقرب إليه من القيمة ، وهو مماثل له من طريق الصورة والمشاهدة والمعنى ، والقيمة مماثلة من طريق الظن والاجتهاد ، فكان ما طريقه المشاهدة مقدما ، كما يقدم النص على القياس ، لكون النص طريقه الإدراك بالسماع ، والقياس طريقه الظن والاجتهاد . وإن كان غير متقارب الصفات ، وهو ما عدا المكيل والموزون ، وجبت قيمته ، في قول الجماعة .

                                                                                                                                            وحكي عن العنبري يجب في كل شيء مثله ; لما روت جسرة بنت دجاجة ، عن عائشة رضي الله عنها { ، أنها قالت : ما رأيت صانعا مثل حفصة ، صنعت طعاما ، فبعثت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذني الأكل فكسرت الإناء ، فقلت : يا رسول الله ، ما كفارة ما صنعت ؟ فقال : إناء مثل الإناء ، وطعام مثل الطعام } . رواه أبو داود .

                                                                                                                                            وعن أنس ، { أن إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم كسرت قصعة الأخرى ، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم قصعة الكاسرة إلى رسول صاحبة المكسورة ، وحبس المكسورة في بيته . } رواه أبو داود مطولا ، ورواه الترمذي نحوه ، وقال : حديث حسن صحيح . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بعيرا ، ورد مثله . ولنا ; ما روى عبد الله بن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أعتق شركا له في عبد ، قوم عليه قيمة العدل } . متفق عليه . فأمر بالتقويم في حصة الشريك ; لأنها متلفة بالعتق ، ولم يأمر بالمثل .

                                                                                                                                            ولأن هذه الأشياء لا تتساوى [ ص: 140 ] أجزاؤها ، وتتباين صفاتها ، فالقيمة فيها أعدل وأقرب إليها ، فكانت أولى . وأما الخبر فمحمول على أنه جوز ذلك بالتراضي ، وقد علم أنها ترضى بذلك . ( 3932 ) فصل : وما تتماثل أجزاؤه ، وتتقارب صفاته ، كالدراهم والدنانير والحبوب والأدهان ، ضمن بمثله . بغير خلاف .

                                                                                                                                            قال ابن عبد البر : كل مطعوم ، من مأكول أو مشروب ، فمجمع على أنه يجب على مستهلكه مثله لا قيمته . وأما سائر المكيل والموزون ، فظاهر كلام أحمد أنه يضمن بمثله أيضا ; فإنه قال : في رواية حرب ، وإبراهيم بن هانئ : ما كان من الدراهم والدنانير ، وما يكال ويوزن ، فعليه مثله دون القيمة . فظاهر هذا وجوب المثل في كل مكيل وموزون ، إلا أن يكون مما فيه صناعة ، كمعمول الحديد والنحاس والرصاص من الأواني والآلات ونحوها .

                                                                                                                                            والحلي من الذهب والفضة وشبهه ، والمنسوج من الحرير والكتان والقطن والصوف والشعر ، والمغزول من ذلك ، فإنه يضمن بقيمته ; لأن الصناعة تؤثر في قيمته ، وهي مختلفة ، فالقيمة فيه أحصر ، فأشبه غير المكيل والموزون . وذكر القاضي أن النقرة والسبيكة من الأثمان ، والعنب والرطب والكمثرى إنما يضمنه بقيمته . وظاهر كلام أحمد يدل على ما قلنا . وإنما خرج منه ما فيه الصناعة ; لما ذكرنا . ويحتمل أن يضمن النقرة بقيمتها ، لتعذر وجود مثلها إلا بتكسير الدراهم المضروبة وسبكها ، وفيه إتلاف .

                                                                                                                                            فعلى هذا ، إن كان المضمون بقيمته من جنس الأثمان ، وجبت قيمته من غالب نقد البلد ، فإن كانت من غير جنسه ، وجبت بكل حال ، وإن كانت من جنسه ، فكانت موزونة وجبت . وإن كانت أقل أو أكثر ، قوم بغير جنسه ، لئلا يؤدي إلى الربا . وقال القاضي : إن كانت فيه صناعة مباحة ، فزادت قيمته من أجلها ، جاز تقويمه بجنسه ; لأن ذلك قيمته ، والصناعة لها قيمة ، وكذلك لو كسر الحلي ، وجب أرش كسره ، ويخالف البيع ، لأن الصناعة لا يقابلها العوض في العقود ، ويقابلها في الإتلاف ، ألا ترى أنها لا تنفرد بالعقد ، وتنفرد بضمانها بالإتلاف . قال بعض أصحاب الشافعي : هذا مذهب الشافعي وذكر بعضهم مثل القول الأول ، وهو الذي ذكره أبو الخطاب لأن القيمة مأخوذة على سبيل العوض ، فالزيادة فيه ربا ، كالبيع وكالنقص .

                                                                                                                                            وقد قال أحمد في رواية ابن منصور : إذا كسر الحلي ، يصلحه أحب إلي . قال القاضي : وهذا محمول على أنهما تراضيا بذلك ، لا أنه على طريق الوجوب . وهذا فيما إذا كانت الصناعة مباحة ، فإن كانت محرمة كالأواني وحلي الرجال ، لم يجز ضمانه بأكثر من وزنه ، وجها واحدا ; لأن الصناعة لا قيمة لها شرعا ، فهي كالمعدومة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية