الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 177 ] 32 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله عليه السلام من أمره من قبله مظلمة لأخيه في عرض أو في مال أن يتحلله منها في الدنيا

187 - حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، حدثني ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة : أن رسول الله عليه السلام قال : { من كانت له مظلمة من أخيه من عرضه أو ماله فليتحلله من قبل أن يؤخذ منه حين لا يكون دينار ولا درهم ، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإلا أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه } .

188 - حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا خالد بن عبد الرحمن الخراساني ، عن ابن أبي ذئب ، ثم ذكر بإسناده مثله .

189 - حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، قال : وحدثني مالك ، حدثني سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من كانت [ ص: 178 ] عنده مظلمة لأخيه في عرض أو في مال فليأته فليحلله منها ، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه } .

قال أبو جعفر : فتأملنا هذا الحديث فكان ما في رواية ابن أبي ذئب منه : { من كانت له مظلمة من أخيه من عرضه أو ماله فليتحلله } ، فكان معنى ذلك عندنا والله أعلم فليتحلله بما يتحلل به من مثله ، من دفع مال مكان مال ، ومن عفو عن عقوبة وجبت في انتهاكه عرضه ؛ لأن ذلك الانتهاك يوجب على المنتهك العقوبة في بدنه ، كقول الرجل للرجل : يا فاسق ، أو يا خبيث ، أو يا سارق ، ولا تقوم الحجة له عليه أنه كذلك ، فعلى ذلك القائل العقوبة ، وللواجبة له تلك العقوبة العفو عنه ، لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك ، وذلك التحليل الذي يراد من هذه العقوبة ، والله أعلم .

وفي حديث مالك مكان ذلك فليأته فليحلله منها ، فذلك على إتيان من له المظلمة ، لا على إتيان من هي عليه ، وذلك بعيد في المعنى ؛ لأن الذي له المظلمة غير مخوف عليه منها في الآخرة ، وإنما الخوف في الآخرة على من هي قبله ، فبان بما ذكرنا أن الأولى مما اختلف فيه مالك وابن أبي ذئب في هذا الحديث ، هو ما رواه عليه ابن أبي ذئب لا ما رواه عليه مالك .

[ ص: 179 ] ثم رجعنا إلى ما في حديثهما جميعا من قول رسول الله عليه السلام : { من قبل أن يؤخذ منه حين لا يكون دينار ولا درهم ، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإلا أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه } ، فكان ذلك عندنا والله أعلم راجعا على المظلمة في المال لا على المظلمة في العرض ؛ لأن المظلمة في المال توجب مالا ، وهو الدنانير والدراهم ، فإذا كانا غير مقدور عليهما عاد صاحب المظلمة في حقه بمظلمته إلى حسنات ظالمه ، وأخذ منها بقدر مظلمته ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئاته ، فألقي على ظالمه بمقدار مظلمته ، وليس كذلك المظلمة في العرض ؛ لأن الواجب بها هو العقوبة في بدن الظالم بجلده عليها ، وذلك مقدور عليه في الآخرة من بدنه كما كان مقدورا عليه منه في الدنيا ، ومما يقوي ما قلناه في ذلك . :

190 - ما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، حدثنا عبيد الله بن محمد ، يعني : ابن عائشة ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا فضيل بن غزوان ، عن ابن أبي نعيم ، عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم عليه السلام نبي التوبة : { من قذف مملوكه بزنا بريئا مما قاله له ، أقام عليه يوم القيامة حدا ، إلا أن يكون كما قال } .

191 - وما قد حدثنا علي بن معبد ، حدثنا علي بن الحسن بن [ ص: 180 ] شقيق ، حدثنا عبد الله يعني : ابن المبارك ، عن فضيل بن غزوان ، عن عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي ، عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم نبي التوبة صلى الله عليه وسلم : { من قذف مملوكه بزنا بريئا مما قال ، أقام عليه الحد يوم القيامة ، إلا أن يكون كما قال } .

192 - حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا سويد بن نصر ، حدثنا ابن المبارك ، عن الفضيل بن غزوان ، ثم ذكر بإسناده مثله ، ولم يقل : بزنا .

193 - وما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ؛ وهو ابن سعيد ، عن فضيل بن غزوان ، عن عبد الرحمن بن أبي نعم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه السلام : { من قذف مملوكا ، وهو بريء مما قال ؛ جلد يوم القيامة ، إلا أن يكون كما قال } .

قال أبو جعفر : وقد كان العبد في الدنيا عاجزا أن يقيم الحد على قاذفه من مولاه ، وممن سواه بالرق الذي فيه ، ولما أزاله الله تعالى عنه في الآخرة ، ورده إلى أحكام من سواه من بني آدم المستحقين للحدود على قاذفيهم ، ذهب المعنى الذي كان يمنعه من أخذه له في الدنيا ، فأخذه له في الآخرة كما كان يأخذه في الدنيا لو انطلق له الأخذ به فيها .

[ ص: 181 ] فإن قال قائل : فقد جاء الخطاب في حديث التحليل من الغيبة الذي رويته بالمظلمة في العرض والمال جميعا ، فكيف يجوز أن يرجع بشيء من الكلام المعطوف عليه على بعض ما ابتدئ به دون بقيته ، قيل له : العرب تفعل هذا كثيرا ، تخاطب بالشيء بعقب ذكر شيئين ، تريد بخطابها أحد ذينك الشيئين جميعا .

ومن ذلك قول الله تعالى : مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ثم قال : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرجان من أحدهما دون الآخر ، ومن ذلك قوله : يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم والرسل فإنما كانوا من الإنس لا من الجن .

ومن ذلك ما يروى عن النبي عليه السلام . :

194 - مما قد حدثناه يونس ، حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي إدريس ، عن عبادة قال : { كنا عند النبي عليه السلام في مجلس فقال : تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ... الآية ، فمن أوفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب شيئا فعوقب عليه فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه ، فأمره إلى الله إن شاء عذبه ، وإن شاء رحمه } .

[ ص: 182 ] قال أبو جعفر : ونحن نعلم أن من أشرك بالله فعوقب على شركه لم تكن تلك العقوبة كفارة له ؛ لأن الله تعالى يقول : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وأنه إن لم يعاقب وستر عليه ، لم يكن ممن قد يجوز أن يغفر الله له ، فكان قوله عليه السلام : { فمن أصاب من ذلك شيئا } إنما هو على بعض تلك الأشياء لا على كلها ، فكذلك قوله في تحويل بعض حسنات الظالم إلى المظلوم ، وفي تحويل بعض سيئات المظلوم إلى الظالم ليس ذلك في الظلم في الأعراض ، وإنما هو في الظلم في الأموال لا الظلم في الأعراض ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية