الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون )

                                                          * * *

                                                          ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف المنافقين النفسية التي استغرقت نفوسهم ، وصارت مرضا ملازما لهم كالمرض الجسمي العقام الذي لا يزايل المريض حتى يقضى عليه ، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى أحوالهم في معاملة المؤمنين ، فذكر سبحانه أنهم يفسدون في الأرض ويزعمون لطغوانهم أنهم يصلحونها ، وأنهم فوق الناس ، ويمارون في القول ، ويظهرون للمؤمنين بوجه ولغيرهم من إخوانهم بوجه آخر حين يلقونهم ، يحسبون أنهم يستهزئون بالمؤمنين .

                                                          [ ص: 129 ] ولقد كان المنافقون يفسدون في الأرض بين الناس ، والفساد في الأشياء أن تخرج عما خلقت له إلى ما يضر ، والصلاح استقامتها حتى تكون في دائرة النفع الإنساني العام ، والمنافقون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيما بعده من العصور شأنهم الفساد ، ومن كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وضح فسادهم ، واستشرى شرهم ، فهم قد كفروا بالحق إذ جاءهم ، وأنكروا كتاب الله تعالى ورسوله الأمين ، وقد عرفوه ، ومشوا بالنميمة والسعاية بين الناس ، وكلما أطفأ الله نارا للحرب أوقدوها ، ومالئوا المشركين على المؤمنين ، وإذا خرج المؤمنون للقتال عملوا على أن يهموا بالفشل ، يعرفون ضعفاء المسلمين ويغرونهم بالتخلف ، يبتغون الفتنة بين المؤمنين ويقلبون الأمور لإثارتها ، كما قال تعالى : لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .

                                                          ولقد قال ابن جرير في تفسيره في بيان إفسادهم : أهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم ، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه ، وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبهم على المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه ، مقيمون على الشك والريب ، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا ، فذلك إفساد المنافقين في الأرض ، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها ، فهم يحرضون المشركين على المؤمنين ، ويتفقون معهم ، ويدلون على عورات المؤمنين ، ومقاتلهم ، وهكذا .

                                                          ويسأل سائل : لماذا قال سبحانه وتعالى : (في الأرض ) ؟ ونقول : إن ذلك لبيان عموم فسادهم ، وأنه يتناول المدينة وما حولها . وأن الأرض موطن فسادهم ، يثيرون الحروب فيها ، ويشيعون الشر في ربوعها .

                                                          وقوله تعالى : وإذا قيل لهم مع البناء للمجهول للإشارة إلى عموم شرهم ، وأن الناس جميعا يتساءلون : لماذا كان ذلك الفساد ؟ وأي مأرب لهم فيه ؟ ، [ ص: 130 ] ولسان الخير يقول لهم : لا تفسدوا في الأرض فهم في حال من الإفساد ، يستنكرها كل إنسان ، ولا يرتضيه رجل للأخلاق عنده مكانة ، وللخير عنده منزع ، فتجهيل اللائم لهم بقوله : وإذا قيل لعموم المستنكرين لحالهم ، وأنهم في واد والناس في واد آخر ، فلا تجد أحدا يوالي منافقا إلا إذا كان على شاكلته .

                                                          وإن أشد فساد الفاسد أن يغتر بحاله ، ويزعم أنه ليس بفاسد ، فهو معكوس النفس مركوس ، قد انقلبت الحقائق في عقله ، فلا يعرف الخير من الشر ، ولا الفساد من الصلاح ، وهكذا المنافقون تنكس عليهم الأمور ، فجميعها منكوس .

                                                          ولذلك يرد المنافقون قول من يستنكر فسادهم بما حكاه الله تعالى عن نفوسهم : قالوا إنما نحن مصلحون أي قصروا نفوسهم على الإصلاح ، وذلك أن " إنما " تدل على القصر أي قصرهم على الصلاح لا يكون منهم فساد قط ، وذلك أعظم الغرور وأشد الفساد ، فكل ما يفعلون مما ذكرنا وما لم نذكر يعدونه إصلاحا ، ولا يعدونه فسادا ، وهكذا زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا ، وذلك الغرور لا يكون إلا ممن أحاطت به خطيئته ، فأصبح لا يرى إلا ما يكون في دائرتها ، وقد سدت عنه كل منافذ الخير .

                                                          وقد حكم الله تعالى عليهم ذلك الحكم القاطع مؤكدا له أفضل توكيد بقوله تعالى : ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون فالله تعالى يحكم عليهم بأن الفساد يستغرقهم وأنهم مقصورون عليه ، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك الحكم بعدة مؤكدات :

                                                          أولها : التعبير بـ " ألا ; لأن لا نافية دخلت عليها همزة الاستفهام الدالة على التنبيه والنفي ، فهي نفي مؤكد لصلاحهم ، وتأكيد لفسادهم .

                                                          وثانيها : التأكيد بـ " إن " المؤكدة لفسادهم .

                                                          [ ص: 131 ] الثالثة : ضمير الفصل ، وهو " هم " .

                                                          الرابعة - تعريف الطرفين وهو دال على القصر ، أي أنهم مقصورون على الفساد ، لا يتجاوزونه ، وهو محيط بهم إحاطة الدائرة بقطرها ، فهم يسارعون فيه ، ولا يخرجون عنه .

                                                          ومع هذه الحال ، وهذا الحكم المؤكد لا يشعرون ، والشعور هو الإحساس الجسدي والنفسي والعقلي بخطأ ما يفعلون ، فالشر قد استغرقهم ، حتى أصبحوا لا يدركون بعقلهم الذي غمره الفساد ولا بنفوسهم الأمارة بالسوء ، ولا بإحساسهم الذي آفته آفة الشر .

                                                          وإذا كان فسادهم قد ذاع وشاع فسببه أنهم جعلوا أنفسهم في حيز فكري ونفسي وأهل الإيمان في حيز غيره ، وشأن المنافق دائما أنه يعتقد أنه في مكانة من الفكر والتدبر ، وغيره ممن يدركون الحق في سفه وحمق ، فهم يريدون أن يصرفوهم عن الإيمان ليضلوهم ، ويفتنوهم لولا أن يتداركهم الله برحمته ، فيستنقذهم منهم .

                                                          كانوا صنفا قائما بين الناس لا هم كفار أعلنوا كفرهم ، ولا هم مؤمنون قد رضوا بالإسلام دينا ، وانحازوا بحالهم التي هي أشد كفرا ومقتا عند الله وعند الناس ، فكان من سنة الناس أن يسألوهم لماذا لم يؤمنوا بقلوبهم ؟ ولماذا يقفون ذلك الموقف الحائر المحير . لا بد أن يكونوا كفارا معلنين كفرهم ، وإلا اختاروا الإيمان .

                                                          وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء بني الفعل (قيل ) للمجهول للإشارة إلى عموم القائلين لأن موقفهم المتردد المتذبذب بين حق خالص لا ريب فيه ، وباطل لا ريب في بطلانه ، فهم يعلنون الإيمان ، ولم يعلنوا الكفر ، وإن كانت حالهم أشد الكفر وأمقته ، كان هذا السؤال يتردد في كل القلوب ، [ ص: 132 ] ويتساءل عنه كل أهل العقل والمنطق ، ولذلك كان التعميم في وإذا قيل لهم قال المخلصون : آمنوا أي صدقوا واعتقدوا الوحدانية ، وأن تؤمنوا بالله ورسوله والملائكة والرسل جميعا ،كما آمن الناس ، و " أل " في الناس للعهد أي الناس المعهودين المعروفين ، وهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه المجاهدون الذين أخلصوا دينهم لله .

                                                          وعبر عنهم بالناس إشارة إلى أنهم الناس حقا وصدقا الذين بلغوا أعلى درجات الإنسانية بإيمانهم وطهارة نفوسهم ، وعظم مداركهم ، وإذعانهم للحق إذ دعوا إليه .

                                                          ولكن مع جلال ما آمنوا به ، وصدقه ، استعلى المنافقون بالباطل ، وكذلك شأن المنافق يظن أن ما هو عليه من نفاق ومراء هو عين العقل ، وما عليه غيره هو عين السفه .

                                                          قالوا مستنكرين ما قيل ويقال لهم : أنؤمن كما آمن السفهاء والسفهاء جمع " سفيه " ، وهو الأحمق الذي لا يتخير الأمور ، ولا يتعرف أحسنها فيتبعه ، وقد ظن المنافقون أنهم أهل الحكمة ، فقالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء وهم في زعمهم محمد وأصحابه ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي : لا نؤمن ، ولا نصدق برسالة محمد إلى الخلق ، كما صدق محمد وأتباعه ، ومن ساروا على منهاجه ، وكذلك زين لهم تفكيرهم الفاسد ، وغرهم ما كانوا يفترون ، ويكذبون به ، وتكرر كذبهم ، حتى ظنوها الأعلى ، وهو الدرك الأسفل ، ولقد حكم الله تعالى ، وهو الحكم العدل ، وهو خير الفاصلين ، فقال تعالت كلماته : ألا إنهم هم السفهاء يقرر الله تعالى الحكم عليهم بالسفه ، وجعلهم مقصورين عليه يدورون في إطاره ويسارعون فيه ، فهم يخرجون من سفه إلى سفه ، ويسارعون في السفاهة ، ويسيرون فيها حتى يصلوا إلى الدرك الأسفل منها .

                                                          [ ص: 133 ] وقد أكدت السفاهة بقوله : (ألا ) التي هي استفهام داخل على النفي ، فكان تأكيدا للنفي مع التنبيه ، وقد أكد أيضا بـ " إن " ، وهي تجيء بعد قوله تعالى : (ألا ) كما يجيء القسم بعدها .

                                                          وأكد بضمير الفصل ، في قوله تعالى : هم السفهاء .

                                                          وأكد القول بتعريف الطرفين الذي يفيد قصرهم على السفه ، بحيث لا يكون منهم إلا ما هو سفه ، ولا يجيء منهم حكمة قط ، لأن الحكمة لا تكون إلا من قلب سليم .

                                                          ولكن لا يعلمون مقدار ما أوتوا من سفه الرأي ، وما أوتي غيرهم من حكمة الإيمان ، وهنا نجد أنهم عند قصرهم في النص القرآني على الفساد ، قال : ولكن لا يشعرون ، لأن الفساد والصلاح حسيان ، فناسبهما أن يكون عنهم شعور حسي ، أما حكم السفه فأمر فكري فناسبه نفي العلم لا نفي الحس .

                                                          فذكر القرآن الكريم قياس بعض أحوال المنافقين في أنهم يدعون الإيمان ويبطنون الكفر ، وأن النفاق والإيمان نقيضان لا يجتمعان ، والمنافق ليس من شأنه أن يؤمن بشيء ، وأنهم يزعمون أنهم هم الصالحون - وهم المفسدون الفاسدون - وأنهم يحسبون أنهم بشكهم ونفاقهم في مرتبة عالية ، وأن المؤمنين بالنسبة لهم ضعاف الأحلام سفهاء .

                                                          بعد ذلك بين سبحانه علاقتهم بالمؤمنين ومعاملتهم ، وكيف يمارونهم ، ولا يجهرون أمامهم بكفرهم ، فقال تعالى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون كان أولئك المنافقون يشيعون في مجالسهم أن المؤمنين سفهاء ، وأنهم هم المدركون وحدهم ، العارفون بحقيقة العقائد ، وأنهم الأعلون ، لأن في المؤمنين موالي كصهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم .

                                                          [ ص: 134 ] ولكنهم " كانوا إذا لقوا كبار المؤمنين رفئوهم بأحسن القول كأنهم معهم في الإيمان ، بل يدخلون المسجد ، كما يدخلون ليوهموهم بأنهم مؤمنون ، يروى في ذلك أن عبد الله بن أبي وهو كبير النفاق والمنافقين خرج وصحبا له فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال زعيم النفاق وقد أخذ بيد أبي بكر : مرحبا بالصديق سيد بني تيم ، وشيخ الإسلام وثاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أخذ بيد عمر ، فقال : مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أخذ بيد علي ، وقال : مرحبا بابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه ، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله .

                                                          قال هذا القول ، ثم افترق وانصرف إلى الذين رأوه من أصحابه وقال لهم : كيف رأيتموني فعلت ؟ فأنكروا عليه ، وهم يعلمون أنه لا يحكي بقوله ما في نفسه ، فهو معهم ، وهو يسخر من المؤمنين ، ويستهزئ ، وذلك من إمعانه في كفره ، ونفاقه ، وحقده وحسده .

                                                          وإذا لقوا الذين آمنوا لقي معناه قاربه ، أو استقبله عن قرب ، أو جمعهما مكان ، وقرئ (لقوا ) من لقي ، كما قرأ أبو حنيفة وغيره " لاقوا " . والأولى تدل على مجرد لقائهم مع أصحاب رسول الله عفوا ، أو من غير إرادة ، والثانية على الملاقاة بينهم والتلاقي المقصود ، والآية الكريمة بالقراءتين تدل على المعنيين فهم حيثما التقوا بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء ألقوهم عفوا ، أم لاقوهم قصدا واجتمعوا بهم قالوا لهم : آمنا ، فهم يسترون كفرهم دائما ، ويعلنون إيمانهم دائما [ ص: 135 ] في عوج ، وقد يحرفون الكلم عن مواضعه ويلوون ألسنتهم بما ظاهره يدل على أنهم آمنوا ، وباطنه كفر وطغيان .

                                                          هذا قولهم بأفواههم للمؤمنين ، يقولون : آمنا . أي : دخلنا في جماعتكم مؤمنين مصدقين ، ولكنهم إذا تركوا المؤمنين وكانوا في جماعتهم قالوا : إنا معكم .

                                                          وعبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالى : وإذا خلوا إلى شياطينهم فكانت كلمة (خلوا ) متعدية بإلى ، وأصلها بالباء ، يقال : خلا به ، ولا يقال : خلا إليه ، وإنما عدل عن الباء إلى التعديه بإلى للدلالة على معنى الانصراف ، إذ كلمة خلا تتضمن ذلك ، والمعنى خلوا منصرفين إليهم ، تاركين المؤمنين ، أو المعنى خلوا عن المؤمنين بمعنى تركوهم إليهم ، فلا مجاز في التعدي . ومهما يكن التخريج ، فإن معنى خلوا بهم لا يراد ، لأن معناه الانفراد ، والتستر ، وهم لا يتسترون فيما بينهم ، يقولون جهرا بينهم ، وفي أوساطهم ، فلم تكن خلوة بهم ، ولكن كانت خلوة معهم وإليهم .

                                                          والشيطان فعلان من شطن بمعنى بعد ، وشياطين جمع شيطان وسموا شياطين لبعدهم عن الحق ، وتجافيهم عنه ، وأضيفت شياطين إليهم للدلالة على أنهم جماعتهم ، وكلهم شياطين بعداء عن الحق لا يهتدون ولا يستمعون إلى الحق ولا يرومونه ، وقد بعدوا عن كل معنى من معاني الحق ، والقصد المستقيم .

                                                          وإذا انصرفوا إلى شياطينهم ، وخلوا أهل الإيمان قالوا إنا معكم وهنا يؤكدون أنهم لم يخرجوا عنهم بذلك الكلام الذي زوروه للمؤمنين ليخدعوهم .

                                                          وقد أكدوا أنهم لم يخرجوا من صفوف النفاق إلى صفوف المؤمنين في قولهم : إنا معكم بـ (إن ) التي تؤكد الحكم الذي يكون وراءها ، وبقولهم : معكم ، أي أننا ما خرجنا عنكم بهذا القول ، ولكن ما زلنا في صحبتكم أنتم دون غيركم ، فلم نفارقكم بهذا القول ، وإنما هو من بضاعتنا التي نروج بها لأنفسنا .

                                                          [ ص: 136 ] ولم يؤكدوا للمؤمنين ادعاءهم الإيمان ; لأنهم قالوا قولا لم يصدر عن قلوبهم ، وإن تلوت به ألسنتهم ، ولم يسكن الإيمان قلوبهم ، فهو قول باللسان ، ولم يذكروا تفصيل الإيمان ، فلم يقولوا آمنا بالله ورسوله ، والكتاب الذي جاء به وباليوم الآخر ، إلى آخر ما يشتمل عليه الإيمان ، لأنهم لا يريدون حقيقة الإيمان ، ولكن يريدون أن يثيروا قولا يسترون به كفرهم المستكن في قلوبهم .

                                                          وقوله تعالى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ليس تكرارا لقوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر لأن الآيات الأولى في التعريف بالصنف الذي يقابل أهل الإيمان الحقيقي ، وأهل الكفر ، أما هذه فهي لبيان أحوال تلك الطائفة ، وكيف يقولون ما لا يفعلون ، ويظهرون ما لا يبطنون ، فالأولى حكم عام ، والأخيرة بيان لبعض أحوالهم .

                                                          وإن أولئك المنافقين عندما يلاقون شياطينهم لا يذكرون المعوية فقط بقولهم : إنا معكم بل يفسرون معنى كلامهم للمؤمنين ، وقولهم : آمنا . وكأن سائلا منهم سأل : لماذا قلتم ما قلتم فقالوا : إنما نحن مستهزئون الاستهزاء السخرية والتعابث ، يقال : هزئ به واستهزأ ، أي سخر منه ، وتعابث بالقول معه .

                                                          وقد أكدوا الحكم بأنهم يستهزئون - بالجملة الاسمية ، وبـ " إن " الدالة على التوكيد ، وبذكر " نحن " لتأكيد الحكم باستهزائهم ، وذكر بـ " إنما " الدالة على القصر ، والمعنى : إننا في عملنا هذا نستهزئ ، فهم يقصرون أنفسهم على الاستهزاء قصرا إضافيا .

                                                          وإن الحكم بأنهم مستهزئون يتضمن الحكم بأنهم لا يؤمنون ; لأن من يؤمن بشيء لا يستهزئ به ، فهم تجاوزوا حد الكفر إلى أبعد منه ، هو الاستهزاء بالمؤمنين والسخرية منهم ، وأصل الباب الهزء ، بمعنى الخفة .

                                                          [ ص: 137 ] ولكن الله تعالى بين أنهم إن يسخروا من المؤمنين فالله تعالى يسخر منهم لخفة عقولهم ، وسفه أحلامهم ; ولذا قال تعالى : الله يستهزئ بهم والمعنى أن الله تعالى ينتصف للمؤمنين فيستهزئ منهم ، ويسخر بهم ، وينتقم من قولهم يوم القيامة ، وليس المراد معنى الاستهزاء ، وهو الاستخفاف ، فإن ذلك لا يليق بذات الله تعالى ، وإنما المراد إنزال الهوان وأن يكونوا موضع السخرية التي يجلبونها لأنفسهم بأفعالهم ، فهم موضع تهكم من أهل الحق دائما ، فهم جديرون بأن يسخر منهم ومن أفعالهم الساخرون ، إذ هم يتملقون الكافرين من المشركين ، وهم معهم ، ويدهنون بالقول مع المؤمنين ، ولا تخفى على أحد حال من أحوالهم ، فهم أرادوا ستر كفرهم فكشف ، وأراد إظهار إيمانهم .

                                                          وإن الله تعالى يذكر أفعال المشركين ، ويوردها بمثل ألفاظها ، وإن كانت دلالة الألفاظ عدلا وحقا لغير ما يريد الكافرون . مثل قوله : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فسمى الفعل اعتداء مجاراة لأفعالهم ، وليس إلا دفعا وقصاصا ، وكذلك قوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله تعالى : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ، وقوله تعالى : إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ، وقوله تعالى : فيسخرون منهم سخر الله منهم وهكذا . وهنا يسأل سائل : لماذا ذكر الله حالهم بقولهم : إنما نحن مستهزئون باسم الفاعل الدال على الدوام ، ورد الله تعالى أمرهم بقوله تعالى : الله يستهزئ بهم بفعل المضارع ؟ والجواب عن ذلك أن المضارع يدل على الدوام مع تجدد الفعل آنا بعد آن ، فالاستهزاء متجدد مستمر ، لا يبقى على حال ، بل يتجدد وقتا بعد وقت ، فهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ، وأفعالهم تجدد الاستهزاء ، والآيات تنزل بفساد أحوالهم وسقم نفوسهم ، والمؤمنون يحذرون ، [ ص: 138 ] وكلما ابتغوا الفتنة ردت إليهم وتكاثر شرهم ، والبراءة منهم ، حتى أن أهل كل بيت فيه منافق استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتله ، حتى كانوا موضع السخرية وأحسوا بها في ذات أنفسهم ، حتى برموا من أعمالهم ، وإن كانوا قد استمروا في غيهم .

                                                          ولكن لم ينزل بهم عقابهم في الدنيا ، وذلك لحكمة أرادها ، ولمصلحة تغياها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي ألا يقتلهم حتى لا يقال بين الأعراب وغيرهم إن محمدا يقتل أصحابه .

                                                          ويمدهم في طغيانهم يعمهون المد هو زيادة المدة في حياتهم بأن يمهلهم الله ثم يأخذهم أخذ عزيز ، كما قال تعالى : نملي لهم ليزدادوا إثما ، والطغيان : الكفر والضلال ، وأصله تجاوز الحد ، والطغيان هنا الكفر مع الإسراف فيه ، والنفاق بلا ريب إسراف في الكفر .

                                                          والزمخشري يفسر " مد " لا بمعنى زيادة المدة ، بل بمعنى زاده ، وألحق به ما يقويه ويكثره مثل قوله تعالى : ونمد له من العذاب مدا ، ولقد قرئ : (ويمدهم ) بضم الياء ، وهي من المدد لا محالة .

                                                          وقول الزمخشري : في ذلك حجة ونرجحه على غيره .

                                                          والمعنى على ذلك ، أنهم مغرورون مخدوعون ، يعطيهم الله سبحانه من مدد الغرور في طغيانهم ، وبيان الحق وتركه ما يزيدهم في حيرتهم واضطرابهم واستمرارهم في أسباب السخرية منهم ; ولذلك قال إنهم بهذا المدد يعمهون ، والعمه مثل العمى ، إلا أن العمى يكون في البصر والرأي ، أما العمه فإنه يكون في الرأي بمعنى الحيرة ، فمعنى يعمهون يتحيرون ، فهم في حيرة دائمة مستمرة . . زاد الله المنافقين في كل العصور عمى ، وزادهم عمها . . !

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية