الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المناسبات بين الآيات والسور

كما أن معرفة سبب النزول لها أثرها في فهم المعنى وتفسير الآية ، فإن معرفة المناسبة بين الآيات تساعد كذلك على حسن التأويل ، ودقة الفهم ، ولذا أفرد بعض العلماء هذا المبحث بالتصنيف .

[ ص: 92 ] والمناسبة في اللغة : المقاربة ، يقال فلان يناسب فلانا أي يقرب منه ويشاكله ، ومنه المناسبة في العلة في باب القياس ، وهي الوصف المقارب للحكم .

والمراد بالمناسبة هنا : وجه الارتباط بين الجملة والجملة في الآية الواحدة أو بين الآية والآية في الآيات المتعددة ، أوبين السورة والسورة .

ولمعرفة المناسبة فائدتها في إدراك اتساق المعاني ، وإعجاز القرآن البلاغي ، وإحكام بيانه ، وانتظام كلامه ، وروعة أسلوبه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير .

قال الزركشي : " وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض ، فيقوى بذلك الارتباط ، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء " . .

وقال القاضي أبو بكر بن العربي : " ارتباط آي القرآن بعضها ببعض ، حتى تكون كالكلمة الواحدة ، متسقة المعاني ، منتظمة المباني ، علم عظيم " .

ومعرفة المناسبات والربط بين الآيات ليست أمرا توقيفيا ، ولكنها تعتمد على اجتهاد المفسر ومبلغ تذوقه لإعجاز القرآن وأسراره البلاغية وأوجه بيانه الفريد ، فإذا كانت المناسبة دقيقة المعنى ، منسجمة مع السياق ، متفقة مع الأصول اللغوية في علوم العربية ، كانت مقبولة لطيفة .

ولا يعني هذا أن يلتمس المفسر لكل آية مناسبة ، فإن القرآن الكريم نزل منجما حسب الوقائع والأحداث ، وقد يدرك المفسر ارتباط آياته وقد لا يدركها ، فلا ينبغي أن يعتسف المناسبة اعتسافا ، وإلا كانت تكلفا ممقوتا ، قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : " المناسبة علم حسن ، ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن [ ص: 93 ] يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره : فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر " ثم قال : " ومن ربط بين ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا برباط ركيك يصان عنه حسن الحديث فضلا عن أحسنه ، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة ، ولأسباب مختلفة ، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض " .

وقد عني بعض المفسرين ببيان المناسبة بين الجمل ، أو بين الآيات ، أو بين السور واستنبطوا وجوه ارتباط دقيقة .

فالجملة قد تكون تأكيدا لما قبلها ، أوبيانا ، أو تفسيرا ، أو اعتراضا تذييليا - ولهذا أمثلته الكثيرة .

وللآية تعلقها بما قبلها على وجه من وجوه الارتباط يجمع بينها ، كالمقابلة بين صفات المؤمنين وصفات المشركين ، ووعيد هؤلاء ووعد أولئك ، وذكر آيات الرحمة بعد آيات العذاب ، وآيات الترغيب بعد آيات الترهيب ، وآيات التوحيد والتنزيه بعد الآيات الكونية . . . وهكذا .

وقد تكون المناسبة في مراعاة حال المخاطبين كقوله تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ، فجمع بين الإبل والسماء والجبال مراعاة لما جرى عليه الإلف والعادة بالنسبة إلى المخاطبين في البادية ، حيث يعتمدون في معايشهم على الإبل ، فتنصرف عنايتهم إليها ، ولا يتأتى لهم ذلك إلا بالماء الذي ينبت المرعى وترده الإبل ، وهذا يكون بنزول المطر ، وهو سبب تقلب وجوههم في السماء ، ثم لا بد لهم من مأوى يتحصنون به ولا شيء أمنع كالجبال ، وهم يطلبون الكلأ والماء فيرحلون من أرض ويهبطون أخرى ، ويتنقلون من مرعى أجدب إلى مرعى أخصب ، فإذا سمع أهل البادية هذه الآيات خالطت شغاف قلوبهم بما هو حاضر لا يغيب عن أذهانهم .

[ ص: 94 ] وقد تكون المناسبة بين السورة والسورة ، كافتتاح سورة " الأنعام " بالحمد : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، فإنه مناسب لختام سورة " المائدة " في الفصل بين العباد ومجازاتهم : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم . . إلى آخر السورة ، كما قال سبحانه : وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ، وكافتتاح سورة " الحديد " بالتسبيح : سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ، فإنه مناسب لختام سورة " الواقعة " من الأمر به : فسبح باسم ربك العظيم ، وكارتباط سورة لإيلاف قريش ، بسورة " الفيل " فإن هلاك أصحاب الفيل كانت عاقبته تمكين قريش من رحلتيها شتاء وصيفا ، حتى قال الأخفش : اتصالها بها من باب قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا .

وقد تكون المناسبة بين فواتح السور وخواتمها . . ومن ذلك ما في سورة " القصص " فقد بدأت بقصة موسى عليه السلام ، وبيان مبدأ أمره ونصره ، ثم ما كان منه عندما وجد رجلين يقتتلان .

وحكى الله دعاءه : قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، ثم ختم الله السورة بتسلية رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بخروجه من مكة والوعد بعودته إليها ، ونهيه عن أن يكون ظهيرا للكافرين : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين . .

ومن تتبع كتب التفسير وجد كثيرا من وجوه المناسبات .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية