الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 74 ] للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا .

" للفقراء " متعلق بـ " تنفقون " الأخيرة ، وتعلقه به يؤذن بتعليق معناه بنظائره المقدمة ، فما من نفقة ذكرت آنفا إلا وهي للفقراء لأن الجمل قد عضد بعضها بعضا .

و الذين أحصروا أي : حبسوا وأرصدوا ، ويحتمل أن المراد بسبيل الله هنا الجهاد ، فإن كان نزولها في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمنى فـ ( في ) للسببية . والضرب في الأرض المشي للجهاد بقرينة قوله : في سبيل الله والمعنى أنهم أحقاء بأن ينفق عليهم لعجزهم الحاصل بالجهاد ، وإن كانوا قوما بصدد القتال يحتاجون للمعونة ، فـ ( في ) للظرفية المجازية ، وإن كان المراد بهم أهل الصفة ، وهم فقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم بمكة وجاءوا دار الهجرة لا يستطيعون زراعة ولا تجارة ، فمعنى أحصروا في سبيل الله : عيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة ، فـ ( في ) للتعليل ، وقد قيل : إن أهل الصفة كانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه فسبيل الله هو الجهاد ، ومعنى أحصروا على هذا الوجه أرصدوا ، و ( في ) باقية على التعليل .

والظاهر من قوله : لا يستطيعون ضربا في الأرض أنهم عاجزون عن التجارة لقلة ذات اليد ، والضرب في الأرض كناية عن التجر ؛ لأن شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع ، فهو يضرب الأرض برجليه أو دابته .

[ ص: 75 ] وجملة : لا يستطيعون ضربا يجوز أن تكون حالا وأن تكون بيانا لجملة " أحصروا " .

وقوله : يحسبهم الجاهل أغنياء حال من الفقراء ، أي الجاهل بحالهم من الفقر يظنهم أغنياء ، و " من " للابتداء لأن التعفف مبدأ هذا الإحسان .

والتعفف تكلف العفاف وهو النزاهة عما لا يليق ، وفي البخاري باب الاستعفاف عن المسألة ، أخرج فيه حديث أبي سعيد : أن الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم ، ثم سألوه فأعطاهم ، حتى نفد ما عنده فقال : ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ، ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب ( يحسبهم ) بكسر السين وقرأه الباقون بفتح السين وهما لغتان .

ومعنى تعرفهم بسيماهم أي بعلامة الحاجة . والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب ، وليس للرسول لأنه أعلم بحالهم ، والمخاطب بـ ( تعرفهم ) هو الذي تصدى لتطلع أحوال الفقراء ، فهو المقابل للجاهل في قوله : يحسبهم الجاهل أغنياء .

والجملة بيان لجملة : يحسبهم الجاهل أغنياء ، كأنه قيل : فبماذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيا ، وكيف يطلع عليهم فأحيل ذلك على مظنة المتأمل كقوله : إن في ذلك لآيات للمتوسمين .

والسيما العلامة ، مشتقة من ( سام ) الذي هو مقلوب وسم ، فأصلها وسمى ، فوزنها عفلى ، وهي في الصورة فعلى ، يدل لذلك قولهم سمة ، فإن أصلها وسمة ويقولون سيمى بالقصر وسيماء بالمد وسيمياء بزيادة ياء بعد الميم وبالمد ، ويقولون سوم إذا جعل سمة ، وكأنهم إنما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصل إلى التخفيف بهذه الأوزان لأن قلب عين الكلمة متأت بخلاف قلب فائها ، ولم يسمع من كلامهم فعل مجرد من ( سوم ) المقلوب ، وإنما سمع منه فعل مضاعف في قولهم سوم فرسه .

[ ص: 76 ] وقوله : لا يسألون الناس إلحافا بيان لقوله : يحسبهم الجاهل أغنياء بيانا ثانيا لكيفية حسبانهم أغنياء في أنهم لا يسألون الناس ، وكان مقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلا أنه أخر للاهتمام بما سبقه من الحث على توسم احتياجهم بأنهم محصورون لا يستطيعون ضربا في الأرض لأنه المقصود من سياق الكلام .

فأنت ترى كيف لم يغادر القرآن شيئا من الحث على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلا وقد جاء به ، وأظهر به مزيد الاعتناء .

والإلحاف : الإلحاح في المسألة ، ونصب على أنه مفعول مطلق مبين للنوع ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير ( يسألون ) بتأويل ملحفين ، وأيا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيد بالإلحاف ، أو المقيدون فيه بأنهم ملحفون - وذلك لا يفيد نفي صدور المسألة منهم . مع أن قوله يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف يدل على أنهم لا يسألون أصلا . وقد تأوله الزجاج والزمخشري بأن المقصود نفي السؤال ونفي الإلحاف معا كقول امرئ القيس :

على لاحب لا يهتدى بمناره يريد نفي المنار والاهتداء ، وقرينة هذا المقصود أنهم وصفوا بأنهم يحسبون أغنياء من التعفف ، ونظيره قوله تعالى : ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع أي : لا شفيع أصلا ثم حيث لا شفيع فلا إطاعة ، فأنتج لا شفيع يطاع ، فهو مبالغة في نفي الشفيع لأنه كنفيه بنفي لازمه وجعلوه نوعا من أنواع الكناية ، وقال التفتازاني : إنما تحسن هذه الطريقة إذا كان القيد الواقع بعد النفي بمنزلة اللازم للنفي لأن شأن اللاحب أن يكون له منار ، وشأن الشفيع أن يطاع ، فيكون نفي اللازم نفيا للملزوم بطريق برهاني ، وليس الإلحاف بالنسبة إلى السؤال كذلك ، بل لا يبعد أن يكون ضد الإلحاف - وهو الرفق والتلطف - أشبه باللازم ، أي أن يكون المنفي مطرد اللزوم للمنفي عنه ، وجوز صاحب الكشاف أن يكون المعنى أنهم إن سألوا سألوا بتلطف خفيف دون إلحاف ، أي إن شأنهم أن يتعففوا ، فإذا سألوا سألوا بغير إلحاف ، وهو بعيد لأن فصل الجملة عن التي قبلها دليل على أنها كالبيان لها ، والأظهر الوجه الأول الذي جعل في الكشاف ثانيا ، وأجاب الفخر بأنه تعالى وصفهم بالتعفف فأغنى عن ذكر أنهم لا [ ص: 77 ] يسألون ، وتعين أن قوله : لا يسألون الناس إلحافا . تعريض بالملحفين في السؤال ، أي : زيادة فائدة في عدم السؤال .

التالي السابق


الخدمات العلمية