الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      ثم قال:


      ............ هذا تمام الضبط والهجاء


      محمد جاء به منظوما     نجل محمد بن إبراهيما


      الأموي نسبا وأنشأه     عام ثلاث معها سبعمائه

      المشار إليه بذا من قوله "هذا" هو الشطر الأول الذي قبل اسم الإشارة، و: "تمام" بمعنى متمم، ومراده بالهجاء الرسم، ولما كانت فائدة الرسم إنما تظهر في أكثر المسائل بالضبط جعل المشار إليه بذا متمما للرسم والضبط، وإلا فهو متمم للضبط فقط، وأما الرسم فقد تقدم له متممه، ثم ذكر أن اسمه محمد بن محمد بن إبراهيم الأموي [ ص: 334 ] نسبا، والنجل الابن، والأموي نسبة إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، ومن ذرية أمية عثمان ومعاوية رضي الله عنهما، ثم أخبر أنه أنشأ هذا التأليف في عام ثلاث من المائة الثامنة من الهجرة النبوية، والضمير في قوله: "به" وفي قوله "أنشأه" عائد على الضبط والهجاء، وأفرده; لأنه تأوله بالمذكور، وقوله: "نجل" خبر لمبتدأ محذوف أي: وهو نجل محمد، ولا يصح جعله نعتا لمحمد؛ إذ لا يخبر عن الاسم قبل أخذ نعته، و: "الأموي" مخفوض نعت لإبراهيم، ثم قال:


      عدته أربعة وعشره     جاءت لخمسمائة مقتفره

      أخبر أن عدة أبيات هذا المنظوم في الضبط والهجاء خمسمائة بيت وأربعة عشرة، وهذا العدد صحيح باعتبار الرسم الأول المسمى ب: "عمدة البيان" الذي نظم هذا الضبط معه، وأما بعد تبديل الرسم المذكور بالرسم الموجود الآن المسمى ب: "مورد الظمآن"، فهذا العدد غير صحيح; لأنه قدم أن عدة ما في الرسم الموجود الآن أربعة وخمسون، وأربعمائة، وإذا أضيف ذلك إلى ما في هذا الضبط، وهو أربعة وخمسون ومائة، كان مجموع ذلك ثمانية وستمائة وهو مخالف لما ذكر هنا، وقوله: "مقتفرة" بكسر الفاء بمعنى تابعة، ثم قال:


      فإن أكن بدلت شيئا غلطا     مني أو أغفلته فسقطا


      فادركنه موقنا ولتسمح     فيما بدا من خلل ولتصفح

      أي: إن غلطت فبدلت شيئا مما نقلته، أو أغفلته؛ أي: تركته فسقط من هذا النظم فليتدركه من تيقنه، ولا يقدم عليه من غير يقين، وليسامح فيما بدا أي: ظهر من الخلل، وليصفح عنه أي: يعرض عنه؛ هذا تواضع منه رحمه الله، وقوله: "غلطا" مفعول لأجله، ثم قال:


      ما كل من قد أم قصدا يرشد     أو كل من طلب شيئا يجد


      لكن رجائي فيه أن لا غيرا     فما صفا خذ واعف عما كدرا

      أي: ليس كل من قصد شيئا من مقاصد الناس يرشد، ولا كل من طلب شيئا [ ص: 335 ] وجده; لأن المرشد والهادي هو الله تعالى، والعبد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وأتى بهذا الكلام اعتذارا عما في نظمه من الخلل إن كان فيه، ثم رجا أن لا يكون فيه تغيير، فإن تخلف رجاؤه بأن تحقق فيه من اطلع عليه التغيير، فالأليق أن يأخذ منه ما صفا، ويعفو عما كدر فيه لا سيما إن كان ذلك نزرا، فالكامل من عدت سقطاته، و: "ما" من قوله: "ما كل" نافية "وأم" معناه قصد، و: "قصدا" مفعول ل: "أم"، وهو مصدر بمعنى اسم المفعول، ثم قال:


      ولست مدعيا الإحصاء     ولو قصدت فيه الاستقصاء


      إذ ليس ينبغي اتصاف بالكمال     إلا لربي الكبير المتعال


      وفوق كل من ذوي العلم عليم     ومنتهى العلم إلى الله العظيم

      يعني أنه لم يدع بعد الفراغ من نظمه هذا أنه أحصى فيه جميع ما ذكر في الكتب التي نقل منها، ولو كان قصد فيه أولا الاستقصاء أي: الإحاطة، فكأنه يقول: إنما يلزم البحث والمناقشة من ادعى الإحصاء بعد الفراغ، وأما من قصد ذلك أولا كما فعل في قوله: "وكل ما قد ذكروه أذكر" ولم يدعه بعد الفراغ، فلا يلزمه ذلك، ثم إنه استشعر سؤالا؛ وهو أن يقال له حين التزمت أولا الاستيفاء، فلم لم تأت به؟ فأجاب عنه بأن العبد شأنه النقصان، والاتصاف بالكمال لا ينبغي إلا لله الكبير المتعال، ثم نبه بقوله "وفوق كل" إلخ، على أن الإنسان وإن اتصف بالعلم ففي الناس من هو أعلم منه، ولا يحيط بالعلم إلا الله العظيم; ولذا قال سيدنا علي كرم الله وجهه:

      قل للذي يدعي علما ومعرفة     علمت شيئا وغابت عنك أشياء

      وما ذكره الناظم في الشطر الأول من البيت الأخير اقتبسه من قوله تعالى: وفوق كل ذي علم عليم ، ثم قال:


      كيف وما ذكري سوى ما اشتهرا     عن جلهم وما إليه ابتدرا


      إلا يسيرة سوى المشتهره     أوردتها زيادة وتذكره

      أي: كيف أدعي الإحصاء، وأنا لم أذكر إلا ما اشتهر عند أكثر الأئمة، وما يتبادر الناس إلى أخذه منهم، ولم أذكر ما ليس بمشهور إلا أحرفا يسيرة أوردتها في [ ص: 336 ] نظمي هذا مع ما اشتهر زيادة لمن لم يعرفها، وتذكرة لمن عرفها ونسيها، فقوله: "كيف" معناها هنا الإنكار و: "ما" نافية، و: "ذكري" مبتدأ وهو مصدر بمعنى المفعول و: "سوى" خبره، وقوله: "يسيرة" صفة لمحذوف تقديره "أحرفا" و: "سوى" صفة أخرى ل: "أحرفا" المقدر، و: "زيادة" مفعول لأجله و: "تذكرة" عطف عليه، ثم قال:


      فالحمد لله على إكماله     وما به قد من من إفضاله


      حمدا كثيرا طيبا مجددا     متصلا دون انقطاع أبدا

      لما أكمل ما أراده ورغب فيه من النظم ختمه بالحمد، ولا شك في كون الحمد مطلوبا عند ختم كل أمر مرغوب، وقد أخبر الله تعالى بأن أهل الجنة يختمون دعاءهم به فقال: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ، ولم يكتف بحمد الله على إكمال النظم، بل أضاف إلى ذلك الحمد على سائر ما تفضل الله عليه به; لأن نعم الله على العبد لا يحصرها عد؛ قال الله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، ووصف هذا الحمد بأوصاف كثيرة فقال: "حمدا كثيرا" أي: ليس بقليل "طيبا" أي: لم يشبه شيء من أغراض الدنيا يوجب قبحه. "مجددا" أي: لا يزال جديدا، وفسر ذلك بقوله: "متصلا دون انقطاع"، وجعل ظرفه الأبد؛ وهو الزمان المتصل المستمر إلى قيام الساعة ثم قال:


      وانفع به اللهم من قد أما     إليه درسا أو حواه فهما


      واجعله ربي خالصا لذاتك     وقائدا بنا إلى جناتك


      عساه دائما به ينتفع     في يوم لا مال ولا ابن ينفع

      دعا هنا بالمنفعة لمن أم أي: قصد إلى درس نظمه، واعتنى بفهمه حتى حصله وإن لم يحفظ لفظه، ثم سأل الله تعالى أن يجعل هذا النظم خالصا لوجهه غير مشوب بغرض دنيوي، وسأل مع ذلك منه تعالى أن يجعل هذا النظم قائدا يقود به إلى الجنة، وجمعها; لأنها ثمانية كما هو معلوم، وقوله: "عساه" إلخ، هو رجاء مرتب على قوله "وانفع به اللهم" إلخ، والانتفاع الذي رجاه انتفاعه هو بهذا التأليف يوم القيامة، وقوله: "دائما" معناه ما دام يوم القيامة، وهو الذي عبر عنه بقوله: "في يوم لا مال ولا ابن ينفع"، [ ص: 337 ] واقتبس ذلك من قوله تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون ، الآية. وفي كثير من النسخ "ليوم لا مال" إلخ، وعليه تكون اللام بمعنى "في" كما في قوله تعالى: لا يجليها لوقتها إلا هو ومراده أنه يجد ثواب تأليفه في جميع مواطن القيامة كالصراط والميزان والحوض وغير ذلك، ثم قال:


      ويا إلهي عظمت ذنوبي     وليس لي غيرك من طبيب


      فامنن علي سيدي بتوبه     عسى الذي جنيته من حوبه


      يذهب عني وإليك رغبتي     في الصفح عن مقترفي وزلتي


      وحجة لبيتك الحرام     ووقفة بذلك المقام

      ضمن في البيت الأول إقراره بالذنوب، واستعظامها والاعتراف بأنه لا غافر لها إلا الله تعالى، وفعل ذلك لما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا أذنب ثم استغفر الله منه يقول الله: يا ملائكتي، أذنب عبدي ذنبا وعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب؛ أشهدكم أني قد غفرت له"، ثم طلب من الله تعالى أن يمن عليه بالتوبة ليصير بذلك من أهل محبته: إن الله يحب التوابين ، ورجا بذلك غفران ما جناه من الحوبة أي: الذنب، وأطنب في ذلك بقوله: "وإليك رغبتي" إلخ; لأن الدعاء من المواضع التي يطلب فيها الإطناب لما فيه من إظهار العبودية، والمقترف المكتسب، والزلة: الزلل، وعبر بهما عن الذنوب وسأل مع ذلك أن يرزقه الله الحج، وإنما طلب ذلك لأداء الواجب ورجاء غفران ذنوبه لما في الحديث: "إن الحاج يخرج من ذنبه كيوم ولدته أمه"، وخص المقام بالذكر دون سائر مشاعر الحج لقوله تعالى: مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ، وقوله: "غيرك" يتعين فيه النصب؛ لكونه مستثنى تقدم على المستثنى منه وهو "طبيب"، و: "من" الداخلة على "طبيب" زائدة، والمراد بالسيد في قوله: "فامنن علي سيدي" الله تعالى، وأطلقه عليه بناء على مذهب من أجاز ذلك وإلا فمالك يكرهه، وقوله: "وحجة" بالجر عطفا على "توبة"، أو على "الصفح"،

      التالي السابق


      الخدمات العلمية