الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (61) قوله تعالى : فمن حاجك : يجوز في "من " وجهان ، أحدهما : أن تكون شرطية وهو الظاهر أي : إن حاجك أحد فقل له : كيت وكيت ، ويجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي ، وإنما دخلت الفاء في الخبر لتضمنه معنى الشرط . والمحاجة مفاعلة وهي من اثنين ، وكان الأمر كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : "فيه " متعلق بحاجك أي : جادلك في شأنه ، والهاء فيه وجهان ، أظهرهما : عودها على عيسى عليه السلام . والثاني عودها على الحق ، وقد يتأيد هذا بأنه أقرب مذكور ، إلا أن الأول أظهر لأن عيسى هو المحدث عنه وهو صاحب القصة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : من بعد ما جاءك متعلق بحاجك أيضا ، و "ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية ، ففاعل "جاءك " ضمير يعود عليها أي : من بعد الذي جاءك هو ، و "من العلم " حال من فاعل "جاءك " ، ويجوز أن تكون موصولة حرفية ، وحينئذ يقال : يلزم من ذلك خلو الفعل من الفاعل ، أو عود الضمير على الحرف ، لأن "جاءك " لا بد له من فاعل ، وليس معنا شيء يصلح عوده عليه إلا "ما " وهي حرفية . والجواب : أنه يجوز أن يكون الفاعل قوله "من العلم " و "من " مزيدة ، أي بعد ما جاءك العلم أي : بعد مجيء العلم ، وهذا إنما يتخرج على قول الأخفش لأنه لا يشترط في زيادتها شيئا . و "من " في " [ ص: 224 ] من العلم " يحتمل أن تكون تبعيضية وهو الظاهر وأن تكون لبيان الجنس .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : تعالوا العامة على فتح اللام لأنه أمر من تعالى يتعالى ، كترامى يترامى ، وأصل ألفه ياء ، وأصل هذه الياء واو ، وذلك أنه مشتق من العلو وهو الارتقاع كما سيأتي بيانه في الاشتقاق ، والواو متى وقعت رابعة فصاعدا قلبت ياء فصار تعالو : تعالي ، فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فصار : تعالى كترامى وتغازى ، فإذا أمرت منه الواحد قلت : تعال يا زيد ، بحذف الألف ، وكذا إذا أمرت الجمع المذكر قلت : تعالوا ؛ لأنك لما حذفت الألف لأجل الأمر أبقيت الفتحة مشعرة بها . وإن شئت قلت : الأصل : تعاليوا ، وأصل هذه الياء واو كما تقدم ، ثم استثقلت الضمة على الياء فحذفت ضمتها فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما وهو الياء لالتقاء الساكنين وتركت الفتحة على حالها . وإن شئت قلت : لما كان الأصل : تعاليوا تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله وهو الياء فقلب ألفا فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما وهو الألف وبقيت الفتحة دالة عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      والفرق بين هذا وبين الوجه الأول أن الألف في الوجه الأول حذفت لأجل الأمر وإن لم تتصل به واو ضمير ، وفي هذا حذفت لالتقائها مع واو الضمير . وكذلك إذا أمرت الواحدة تقول لها "تعالي " ، فهذه الياء هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر ، والتصريف كما تقدم ، إلا أنك تقول هنا : الكسرة على الياء بدل الضمة هناك ، وأما إذا أمرت المثنى فإن الياء تثبت فتقول : يا زيدان تعاليا ، ويا هندان تعاليا أيضا ، يستوي فيه المذكران والمؤنثان ، وكذلك أمر جماعة الإناث تثبت فيه الياء تقول : يا نسوة تعالين ، وقال تعالى : فتعالين أمتعكن إذ لا مقتضى للحذف ولا للقلب ، وهو ظاهر بما تمهد من القواعد .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 225 ] وقرأ الحسن وأبو السمال وأبو واقد : "تعالوا " بضم اللام ، ووجهوها على أن الأصل : تعاليوا كما تقدم ، فاستثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى اللام بعد سلب حركتها فبقي : تعالوا بضم اللام . وقال الزمخشري في سورة النساء : "وعلى هذه القراءة قال الحمداني :


                                                                                                                                                                                                                                      1312 - ... ... ... ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي



                                                                                                                                                                                                                                      بكسر اللام " ، وقد عاب بعض الناس عليه في استشهاده بشعر هذا المولد المتأخر ، وليس بعيب فإنه ذكره استئناسا وهذا كما تقدم في أول البقرة عندما أنشد لحبيب :


                                                                                                                                                                                                                                      1313 - هما أظلما حالي ثمت أجليا      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      واعتذر هو عن ذلك بما قدمته عنه فكيف يعاب عليه شيء عرفه ونبه عليه واعتذر عنه ؟

                                                                                                                                                                                                                                      والذي يظهر في توجيه هذه القراءة أنهم تناسوا الحرف المحذوف حتى كأنهم توهموا أن الكلمة بنيت على ذلك ، وأن اللام هي الآخر في الحقيقة فلذلك عوملت معاملة الآخر حقيقة فضمت قبل واو الضمير وكسرت قبل يائه كما ترى ، ويدل على ما قلته أنهم قالوا في "لم أبله " : إن الأصل : "أبالي " لأنه [ ص: 226 ] مضارع بالى ، فلما دخل الجازم حذفوا له حرف العلة على القاعدة ثم تناسوا ذلك الحرف فسكنوا للجازم اللام لأنها كالأخير حقيقة ، فلما سكنت اللام التقى ساكنان : هي والألف قبلها فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ، وهذا التعليل أولى لأنه يعم هذه القراءة والبيت المذكور ، وعلى مقتضى تعليله هو يقال : الأصل : تعاليي ، فاستثقلت الكسرة على الياء ، فنقلت إلى اللام بعد سلبها حركتها ، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين .

                                                                                                                                                                                                                                      وتعال : فعل صريح وليس باسم فعل لاتصال الضمائر المرفوعة البارزة به . قيل : وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع تفاؤلا بذلك ، وإدناء للمدعو ، لأنه من العلو والرفعة ، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء ، حتى يقال ذلك لمن يريد إهانته كقولك للعدو : تعال ، ولمن لا يعقل كالبهائم ونحوها ، وقيل : هو الدعاء لمكان مرتفع ، ثم توسع فيه حتى استعمل في طلب الإقبال إلى كل مكان حتى المنخفض .

                                                                                                                                                                                                                                      و ندع جزم على جواب الأمر إذ يصح أن يقال : إن تتعالوا ندع .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ثم نبتهل أتى بثم هنا تنبيها لهم على خطابهم في مباهلته ، كأنه يقول لهم : لا تعجلوا وتأنوا لعله أن يظهر لكم الحق ، فلذلك أتى بحرف التراخي .

                                                                                                                                                                                                                                      والابتهال : افتعال من البهلة ، والبهلة بفتح الباء وضمها ، وهي اللعنة ، قال الزمخشري : "ثم نتباهل بأن نقول : لعنة الله على الكاذب منا ومنكم ، والبهلة بالفتح والضم : اللعنة ، وبهله الله : لعنه الله وأبعده من رحمته ، من [ ص: 227 ] قولك : أبهله إذا أهمله ، وناقة باهل : لا صرار عليها ، وأصل الابتهال هذا ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا " قلت : ما أحسن ما جعل الافتعال هنا بمعنى التفاعل ، لأن المعنى لا يجيء إلا على ذلك ، وتفاعل وافتعل أخوان في مواضع نحو : اجتوروا وتجاوروا ، واشتوروا وتشاوروا ، ولذلك صحت واو اجتور واشتور ، وقوله : "وإن لم يكن التعانا " يعني أنه اشتهر في اللغة : فلان يبتهل إلى الله في قضاء حاجته ، ويبتهل في كشف كربته .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب : "أصل البهل : كون الشيء غير مراعى . والباهل : البعير المخلى عن قيده أو عن سمة ، أو المخلى ضرعها عن صرار " ، وأنشد لامرأة :

                                                                                                                                                                                                                                      "

                                                                                                                                                                                                                                      أتيتك باهلا غير ذات صرار

                                                                                                                                                                                                                                      "

                                                                                                                                                                                                                                      وأبهلت فلانا : خليته وإرادته ، تشبيها بالبعير الباهل ، والبهل والابتهال في الدعاء : الاسترسال فيه والتضرع نحو : "ثم نبتهل فنجعل " ، ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن ، قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1314 - ... ... ... ...     نظر الدهر إليهم فابتهل



                                                                                                                                                                                                                                      قلت : هذا الشطر للبيد ، وأول البيت :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 228 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1315 - من قروم سادة في قومهم     نظر الدهر إليهم فابتهل



                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر هذا أن الابتهال عام في كل دعاء لعنا كان أو غيره ، ثم خص في هذه الآية باللعن .

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر عبارة الزمخشري أن أصله خصوصيته باللعن ، ثم تجوز فيه فاستعمل في اجتهاد في دعاء لعنا كان أو غيره ، والظاهر من أقوال اللغويين ما ذكره الراغب . وقال أبو بكر بن دريد في مقصورته :


                                                                                                                                                                                                                                      1316 - لم أر كالمزن سواما بهلا     تحسبها مرعية وهي سدى



                                                                                                                                                                                                                                      بهلا : ج باهلة أي : مهملة ، وفاعلة يجمع على فعل نحو : ضرب ، والسدى : المهمل أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فنجعل هي المتعدية لاثنين بمعنى : نصير ، و "على الكاذبين " هو المفعول الثاني .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية