[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=94فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=96إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=97فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - مع إثبات التوحيد ، واستتبع ذلك محاجة أهل الكتاب في ذلك ، وفي بعض بدعهم وما استحدثوا في دينهم . أما هذه الآيات ففي دفع شبهتين عظيمتين من شبهات
اليهود على الإسلام . قررهما الأستاذ الإمام هكذا :
[ ص: 4 ] قالوا : إذا كنت يا
محمد على ملة
إبراهيم والنبيين من بعده - كما تدعي - فكيف تستحل ما كان محرما عليه وعليهم كلحم الإبل ؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم وموافق في الدين ، ولا أن تخص
إبراهيم بالذكر وتقول : إنك أولى الناس به . هذه هي الشبهة الأولى . وأما الثانية فهي أنهم قالوا : إن الله وعد
إبراهيم بأن تكون البركة في نسل ولده
إسحاق ، وجميع الأنبياء من ذرية
إسحاق كانوا يعظمون
بيت المقدس ويصلون إليه ، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا ، ولما تحولت عن
بيت المقدس وعظمت مكانا آخر اتخذته مصلى وقبلة - وهو
الكعبة - فخالفت الجميع .
فقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93nindex.php?page=treesubj&link=28974_29434كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة هو جواب عن الشبهة الأولى ، قال الأستاذ الإمام : ولكن الجلال وكثيرا من المفسرين يقررون الشبهة ولا يبينون وجه دفعها بيانا مقنعا ، إذ يعترفون بأن بعض الطيبات كانت محرمة على
إسرائيل ، والصواب ما قصه الله - تعالى - علينا في هذه الآية وغيرها من الآيات التي توضحها ، وهي أن كل الطعام كان حلالا
لبني إسرائيل ولإبراهيم من قبل بالأولى ، ثم حرم الله عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم وتأديبا ، كما قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=160فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم [ 4 : 160 ] الآية . فالمراد
بإسرائيل شعب
إسرائيل ، كما هو مستعمل عندهم ، لا
يعقوب نفسه . ومعنى تحريم الشعب ذلك على نفسه : أنه ارتكب الظلم واجترح السيئات التي كانت سبب التحريم ، كما صرحت الآية . فكأنه يقول : إذا كان الأصل في الأطعمة الحل ، وكان تحريم ما حرم على
إسرائيل تأديبا على جرائم أصابوها ، وكان النبي وأمته لم يجترحوا تلك السيئات ، فلم تحرم عليهم الطيبات ؟ ثم قال مبينا تقرير الدفع وسنده :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين في قولكم ; لا تخافون أن تكذبكم نصوصها .
أقول : كأنه يقول : أما إنكم لو جئتم بما عندكم منها لما كان إلا مؤيدا للقرآن فيما جاء به من أنها هي حرمت عليكم ما حرمت . وعللت جملة التكاليف بأنكم شعب غليظ الرقبة متمرد يقاوم الرب ، كما قال
موسى عند أخذ العهد عليكم بحفظ الشريعة ( اقرأ الفصل 31 من سفر التثنية ) وفي غير ذلك من فصول التوراة .
قال الأستاذ الإمام : أما قول الجلال وغيره : إن
يعقوب كان به عرق النسا - بالفتح والقصر - فنذر إن شفي لا يأكل لحم الإبل ، فهو دسيسة من
اليهود . وقيل : إنه نذر ألا يأكل هذا العرق . وفي التوراة أن
يعقوب التقى في بعض أسفاره بالرب في الطريق فتصارعا إلى الصباح ، وكاد
يعقوب يغلبه ، ولكن اعتراه عرق النسا . إلخ ما حرفوه . أقول : وتتمة العبارة - كما في سفر التكوين - ( ( 32 : 25 ) ) ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ
يعقوب في مصارعته معه [ 26 ] وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر . فقال
[ ص: 5 ] لا أطلقك إن لم تباركني [ 27 ] فقال له ما اسمك . فقال :
يعقوب [ 28 ] فقال لا يدعى اسمك في ما بعد
يعقوب بل
إسرائيل . لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت [ 29 ] وسأل
يعقوب وقال : أخبرني باسمك . فقال : لماذا تسأل عن اسمي ؟ وباركه هناك [ 30 ] فدعا
يعقوب اسم المكان
فنيئيل . قائلا لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي [ 31 ] وأشرقت له الشمس إذ عبر
فنوئيل وهو يخمع على فخذه [ 32 ] لذلك لا يأكل
بنو إسرائيل عرق النسا الذي على حق الفخذ إلى هذا اليوم لأنه ضرب حق فخذ
يعقوب على عرق النسا " اهـ . وليس فيه أنه نذر شيئا ولا حرم شيئا . وقيل : إن ما حرمه
يعقوب هو زائدتا الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر . وقال
مجاهد : حرم لحوم الأنعام كلها ، وكل ذلك من الإسرائيليات ، وصحة السند في بعضها عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أو غيره - كما زعم
الحاكم - لا يمنع أن يكون مصدرها إسرائيليا . والأقرب ما قاله الأستاذ الإمام ; لأنه هو الذي تقوم به الحجة ولا سيما عند المطلع على التوراة ، ولو أريد
بإسرائيل يعقوب نفسه لما كان هناك حاجة إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93من قبل أن تنزل التوراة لأن زمن
يعقوب سابق على زمن نزول التوراة سبقا لا يشتبه فيه فيحترس عنه .
والمتبادر عندي : أن المراد بما حرمه
إسرائيل على نفسه ما امتنعوا عن أكله وحرموه على أنفسهم بحكم العادة والتقليد لا بحكم من الله ، كما يعهد مثل ذلك في جميع الأمم ، ومنه تحريم العرب للبحائر والسوائب وغير ذلك مما حكاه القرآن عنهم في سورتي المائدة والأنعام . وقيل : إن شبهتهم التي دفعتها الآية هي إنكار النسخ ، فألزمهم بأن التوراة نفسها نسخت بعض ما كان عليه
إبراهيم وإسرائيل ، وهو إلزام لا يمكنهم التفصي منه ; لأنه ثابت عندهم في التوراة وهو يدل على نبوة النبي على كل حال ، إذ أخبرهم بما عندهم ولم يطلع عليه . وبهذا يسقط بحثهم في كون التحليل والتحريم لا يكونان إلا من الله .
ومن مباحث اللفظ في الآية : أن الطعام ما يطعم ، أي يتناول لأجل الغذاء ، كما قال
الراغب . وقد يقال أيضا : طعم الماء - بكسر العين - وكان يطلق غالبا على الخبز . ومنه قولهم : أكل الطعام مأدوما ، وعلى البر . ومنه حديث
أبي سعيد "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918907كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير " إلخ . - متفق عليه - ومن إطلاقه على غيره حتما قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=96أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة [ 5 : 96 ] وعلى الذبائح أو لعموم قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=5وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [ 5 : 5 ] الآية . والحل بالكسر : مصدر حل الشيء ضد حرم ، وهو مستعار من حل العقدة ، كما قال
الراغب .
وإسرائيل : لقب نبي الله
يعقوب - عليه السلام - ، ومعناه " الأمير المجاهد مع الله " وقد علمت ما عندهم في سبب إطلاقه عليه من عبارة سفر التكوين التي ذكرناها آنفا ، ثم أطلق على جميع ذريته كما هو شائع في كتب القوم من الأسفار المنسوبة إلى
موسى فما دونهما .
[ ص: 6 ] nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=94فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك البيان وإلزام الكاذبين على
إبراهيم والأنبياء بالتوراة ، ودعوتهم إلى الإتيان بها وتلاوتها على الملأ ، وامتناعهم عن ذلك لئلا يظهر أن الله لم يحرم عليهم شيئا من الطعام قبل التوراة . والأصل في الأشياء الحل حتى يرد النص بالتحريم
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=94فأولئك هم الظالمون بتحويلهم الحق في المسألة عن وجهه ، ووضع حكم الله بتحريم بعض الطيبات عليهم في غير موضعه .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95قل صدق الله فيما أنبأني به من عدم تحريم شيء على
إسرائيل قبل التوراة ، وقامت الحجة عليكم بذلك ، فثبت أنني مبلغ عنه ، إذ ما كان لي لولا وحيه أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تحدثون به عن أنبيائكم ، وإذ كان الأمر كذلك
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95فاتبعوا ملة إبراهيم التي أدعوكم إليها حال كونه
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95حنيفا لا غلو فيما كان عليه ولا تقصير ، ولا إفراط ولا تفريط ، بل هو الفطرة القويمة والحنيفية السمحة المبنية على الإخلاص لله وإسلام الوجه له وحده
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95وما كان من المشركين الذين يبتغون الخير من غيره - تعالى - ، أو يخافون الضر من غير أسبابه التي مضت بها سنته .
[ ص: 3 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=94فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=96إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=97فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ ، وَاسْتَتْبَعَ ذَلِكَ مُحَاجَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ ، وَفِي بَعْضِ بِدَعِهِمْ وَمَا اسْتَحْدَثُوا فِي دِينِهِمْ . أَمَّا هَذِهِ الْآيَاتُ فَفِي دَفْعِ شُبْهَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ شُبُهَاتِ
الْيَهُودِ عَلَى الْإِسْلَامِ . قَرَّرَهُمَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَكَذَا :
[ ص: 4 ] قَالُوا : إِذَا كُنْتَ يَا
مُحَمَّدُ عَلَى مِلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ - كَمَا تَدَّعِي - فَكَيْفَ تَسْتَحِلُّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ كَلَحْمِ الْإِبِلِ ؟ أَمَا وَقَدِ اسْتَبَحْتَ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ فَلَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَدَّعِيَ أَنَّكَ مُصَدِّقٌ لَهُمْ وَمُوَافِقٌ فِي الدِّينِ ، وَلَا أَنْ تَخُصَّ
إِبْرَاهِيمَ بِالذِّكْرِ وَتَقُولَ : إِنَّكَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ . هَذِهِ هِيَ الشُّبْهَةُ الْأُولَى . وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ وَعَدَ
إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ تَكُونَ الْبَرَكَةُ فِي نَسْلِ وَلَدِهِ
إِسْحَاقَ ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ
إِسْحَاقَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ ، فَلَوْ كُنْتَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ لَعَظَّمْتَ مَا عَظَّمُوا ، وَلَمَا تَحَوَّلْتَ عَنْ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعَظَّمْتَ مَكَانًا آخَرَ اتَّخَذْتَهُ مُصَلًّى وَقِبْلَةً - وَهُوَ
الْكَعْبَةُ - فَخَالَفْتَ الْجَمِيعَ .
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93nindex.php?page=treesubj&link=28974_29434كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ هُوَ جَوَابٌ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَلَكِنَّ الْجَلَالَ وَكَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يُقَرِّرُونَ الشُّبْهَةَ وَلَا يُبَيِّنُونَ وَجْهَ دَفْعِهَا بَيَانًا مُقْنِعًا ، إِذْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى
إِسْرَائِيلَ ، وَالصَّوَابُ مَا قَصَّهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُوَضِّحُهَا ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ الطَّعَامِ كَانَ حَلَالًا
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلِإِبْرَاهِيمَ مِنْ قَبْلُ بِالْأَوْلَى ، ثُمَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ فِي التَّوْرَاةِ عُقُوبَةً لَهُمْ وَتَأْدِيبًا ، كَمَا قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=160فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [ 4 : 160 ] الْآيَةَ . فَالْمُرَادُ
بِإِسْرَائِيلَ شَعْبُ
إِسْرَائِيلَ ، كَمَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَهُمْ ، لَا
يَعْقُوبُ نَفْسُهُ . وَمَعْنَى تَحْرِيمِ الشَّعْبِ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ : أَنَّهُ ارْتَكَبَ الظُّلْمَ وَاجْتَرَحَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ التَّحْرِيمِ ، كَمَا صَرَّحَتِ الْآيَةُ . فَكَأَنَّهُ يَقُولُ : إِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْأَطْعِمَةِ الْحِلَّ ، وَكَانَ تَحْرِيمُ مَا حَرُمَ عَلَى
إِسْرَائِيلَ تَأْدِيبًا عَلَى جَرَائِمَ أَصَابُوهَا ، وَكَانَ النَّبِيُّ وَأُمَّتُهُ لَمْ يَجْتَرِحُوا تِلْكَ السَّيِّئَاتِ ، فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِمُ الطَّيِّبَاتُ ؟ ثُمَّ قَالَ مُبَيِّنًا تَقْرِيرَ الدَّفْعِ وَسَنَدَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ ; لَا تَخَافُونَ أَنْ تُكَذِّبَكُمْ نُصُوصُهَا .
أَقُولُ : كَأَنَّهُ يَقُولُ : أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ جِئْتُمْ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنْهَا لَمَا كَانَ إِلَّا مُؤَيِّدًا لِلْقُرْآنِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَنَّهَا هِيَ حَرَّمَتْ عَلَيْكُمْ مَا حَرَّمْتُ . وَعُلِّلَتْ جُمْلَةُ التَّكَالِيفِ بِأَنَّكُمْ شَعْبٌ غَلِيظُ الرَّقَبَةِ مُتَمَرِّدٌ يُقَاوِمُ الرَّبَّ ، كَمَا قَالَ
مُوسَى عِنْدَ أَخْذِ الْعَهْدِ عَلَيْكُمْ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ ( اقْرَأِ الْفَصْلَ 31 مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ ) وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُصُولِ التَّوْرَاةِ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : أَمَّا قَوْلُ الْجَلَالِ وَغَيْرِهِ : إِنَّ
يَعْقُوبَ كَانَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا - بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ - فَنَذَرَ إِنْ شُفِيَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ الْإِبِلِ ، فَهُوَ دَسِيسَةٌ مِنَ
الْيَهُودِ . وَقِيلَ : إِنَّهُ نَذَرَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذَا الْعِرْقَ . وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ
يَعْقُوبَ الْتَقَى فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِالرَّبِّ فِي الطَّرِيقِ فَتَصَارَعَا إِلَى الصَّبَاحِ ، وَكَادَ
يَعْقُوبُ يَغْلِبُهُ ، وَلَكِنِ اعْتَرَاهُ عِرْقُ النَّسَا . إِلَخْ مَا حَرَّفُوهُ . أَقُولُ : وَتَتِمَّةُ الْعِبَارَةِ - كَمَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ - ( ( 32 : 25 ) ) وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ضَرَبَ حُقَّ فَخِذِهِ فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخِذِ
يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ [ 26 ] وَقَالَ أَطْلِقْنِي لِأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ . فَقَالَ
[ ص: 5 ] لَا أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي [ 27 ] فَقَالَ لَهُ مَا اسْمُكَ . فَقَالَ :
يَعْقُوبُ [ 28 ] فَقَالَ لَا يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ
يَعْقُوبَ بَلْ
إِسْرَائِيلُ . لِأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ [ 29 ] وَسَأَلَ
يَعْقُوبُ وَقَالَ : أَخْبِرْنِي بِاسْمِكَ . فَقَالَ : لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي ؟ وَبَارَكَهُ هُنَاكَ [ 30 ] فَدَعَا
يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ
فنيئيلَ . قَائِلًا لِأَنِّي نَظَرْتُ اللَّهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ وَنَجَّيْتُ نَفْسِي [ 31 ] وَأَشْرَقَتْ لَهُ الشَّمْسُ إِذْ عَبَرَ
فُنُوئِيلَ وَهُوَ يَخْمَعُ عَلَى فَخِذِهِ [ 32 ] لِذَلِكَ لَا يَأْكُلُ
بَنُو إِسْرَائِيلَ عِرْقَ النَّسَا الَّذِي عَلَى حُقِّ الْفَخِذِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ لِأَنَّهُ ضُرِبَ حُقُّ فَخِذِ
يَعْقُوبَ عَلَى عِرْقِ النَّسَا " اهـ . وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ نَذَرَ شَيْئًا وَلَا حَرَّمَ شَيْئًا . وَقِيلَ : إِنَّ مَا حَرَّمَهُ
يَعْقُوبُ هُوَ زَائِدَتَا الْكَبِدِ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَالشَّحْمِ إِلَّا مَا كَانَ عَلَى الظَّهْرِ . وَقَالَ
مُجَاهِدٌ : حَرَّمَ لُحُومَ الْأَنْعَامِ كُلَّهَا ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ ، وَصِحَّةُ السَّنَدِ فِي بَعْضِهَا عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ غَيْرِهِ - كَمَا زَعَمَ
الْحَاكِمُ - لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُهَا إِسْرَائِيلِيًّا . وَالْأَقْرَبُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمُطَّلِعِ عَلَى التَّوْرَاةِ ، وَلَوْ أُرِيدَ
بِإِسْرَائِيلَ يَعْقُوبُ نَفْسُهُ لَمَا كَانَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=93مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ لِأَنَّ زَمَنَ
يَعْقُوبَ سَابِقٌ عَلَى زَمَنِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ سَبْقًا لَا يُشْتَبَهُ فِيهِ فَيُحْتَرَسُ عَنْهُ .
وَالْمُتَبَادِرُ عِنْدِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا حَرَّمَهُ
إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مَا امْتَنَعُوا عَنْ أَكْلِهِ وَحَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَالتَّقْلِيدِ لَا بِحُكْمٍ مِنَ اللَّهِ ، كَمَا يُعْهَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ ، وَمِنْهُ تَحْرِيمُ الْعَرَبِ لِلْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنْهُمْ فِي سُورَتَيِ الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ . وَقِيلَ : إِنَّ شُبْهَتَهُمُ الَّتِي دَفَعَتْهَا الْآيَةُ هِيَ إِنْكَارُ النَّسْخِ ، فَأَلْزَمَهُمْ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ نَفْسَهَا نَسَخَتْ بَعْضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ
إِبْرَاهِيمُ وَإِسْرَائِيلُ ، وَهُوَ إِلْزَامٌ لَا يُمْكِنُهُمُ التَّفَصِّي مِنْهُ ; لِأَنَّهُ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، إِذْ أَخْبَرَهُمْ بِمَا عِنْدَهُمْ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ . وَبِهَذَا يَسْقُطُ بَحْثُهُمْ فِي كَوْنِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ .
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ : أَنَّ الطَّعَامَ مَا يُطْعَمُ ، أَيْ يُتَنَاوَلُ لِأَجْلِ الْغِذَاءِ ، كَمَا قَالَ
الرَّاغِبُ . وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا : طَعِمَ الْمَاءَ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - وَكَانَ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْخُبْزِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : أَكَلَ الطَّعَامَ مَأْدُومًا ، وَعَلَى الْبُرِّ . وَمِنْهُ حَدِيثُ
أَبِي سَعِيدٍ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918907كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ " إِلَخْ . - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ - وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ حَتْمًا قَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=96أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [ 5 : 96 ] وَعَلَى الذَّبَائِحِ أَوْ لِعُمُومِ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=5وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [ 5 : 5 ] الْآيَةَ . وَالْحِلُّ بِالْكَسْرِ : مَصْدَرُ حَلَّ الشَّيْءُ ضِدَّ حَرُمَ ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ حَلِّ الْعُقْدَةِ ، كَمَا قَالَ
الرَّاغِبُ .
وَإِسْرَائِيلُ : لَقَبُ نَبِيِّ اللَّهِ
يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، وَمَعْنَاهُ " الْأَمِيرُ الْمُجَاهِدُ مَعَ اللَّهِ " وَقَدْ عَلِمْتَ مَا عِنْدَهُمْ فِي سَبَبِ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهِ مِنْ عِبَارَةِ سِفْرِ التَّكْوِينِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى جَمِيعِ ذُرِّيَّتِهِ كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ مِنَ الْأَسْفَارِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى
مُوسَى فَمَا دُونَهُمَا .
[ ص: 6 ] nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=94فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْبَيَانِ وَإِلْزَامِ الْكَاذِبِينَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَالْأَنْبِيَاءِ بِالتَّوْرَاةِ ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِتْيَانِ بِهَا وَتِلَاوَتِهَا عَلَى الْمَلَأِ ، وَامْتِنَاعِهِمْ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظْهَرَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنَ الطَّعَامِ قَبْلَ التَّوْرَاةِ . وَالْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ حَتَّى يَرِدَ النَّصُّ بِالتَّحْرِيمِ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=94فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بِتَحْوِيلِهِمُ الْحَقَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ وَجْهِهِ ، وَوَضْعِ حُكْمِ اللَّهِ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فِيمَا أَنْبَأَنِي بِهِ مِنْ عَدَمِ تَحْرِيمِ شَيْءٍ عَلَى
إِسْرَائِيلَ قَبْلَ التَّوْرَاةِ ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ ، فَثَبَتَ أَنَّنِي مُبَلِّغٌ عَنْهُ ، إِذْ مَا كَانَ لِي لَوْلَا وَحْيُهُ أَنْ أَعْرِفَ صِدْقَكُمْ مِنْ كَذِبِكُمْ فِيمَا تُحَدِّثُونَ بِهِ عَنْ أَنْبِيَائِكُمْ ، وَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95حَنِيفًا لَا غُلُوَّ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَا تَقْصِيرَ ، وَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ ، بَلْ هُوَ الْفِطْرَةُ الْقَوِيمَةُ وَالْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ وَحْدَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=95وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْخَيْرَ مِنْ غَيْرِهِ - تَعَالَى - ، أَوْ يَخَافُونَ الضُّرَّ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهِ الَّتِي مَضَتْ بِهَا سُنَّتُهُ .