الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول أربعة : الإلهيات والنبوات والمعاد وإثبات القضاء والقدر ، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة تقرير الإلهيات ، فلهذا السبب [ ص: 52 ] كلما امتد الكلام في فصل من الفصول في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الإلهيات ، وقد ذكرنا في أول هذه السورة أنه تعالى لما أراد ذكر دلائل الإلهيات ابتدأ بالأجرام الفلكية ، وثنى بالإنسان ، وثلث بالحيوان ، وربع بالنبات ، وخمس بذكر أحوال البحر والأرض ، فههنا في هذه الآية لما عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات بدأ أولا بذكر الفلكيات فقال : ( والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ) والمعنى : أنه تعالى خلق السماء على وجه ينزل منه الماء ويصير ذلك الماء سببا لحياة الأرض ، والمراد بحياة الأرض نبات الزرع والشجر والنور والثمر بعد أن كان لا يثمر ، وينفع بعد أن كان لا ينفع ، وتقرير هذه الدلائل قد ذكرناه مرارا كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ) سماع إنصاف وتدبر ؛ لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع .

                                                                                                                                                                                                                                            والنوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآيات : الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله : ( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ) قد ذكرنا معنى العبرة في قوله : ( لعبرة لأولي الأبصار ) [ آل عمران : 13 ] وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي : ( نسقيكم ) بضم النون ، والباقون بالفتح ، أما من فتح النون فحجته ظاهرة تقول : سقيته حتى روي أسقيه قال تعالى : ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) [ الإنسان : 21 ] وقال : ( والذي هو يطعمني ويسقين ) [ الشعراء : 79 ] وقال : ( وسقوا ماء حميما ) [ محمد : 15 ] ومن ضم النون فهو من قولك : أسقاه إذا جعل له شرابا كقوله : ( وأسقيناكم ماء فراتا ) [ المرسلات : 27 ] وقوله : ( فأسقيناكموه ) [ الحجر : 22 ] والمعنى ههنا : أنا جعلناه في كثرته وإدامته كالسقيا ، واختار أبو عبيد الضم قال : لأنه شرب دائم ، وأكثر ما يقال في هذا المقام أسقيت .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله : ( مما في بطونه ) الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال : مما في بطونها ، وذكر النحويون فيه وجوها .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة جمع ، كالرهط والقوم والبقر والنعم ، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد ، وهو التذكير ، وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع ، وهو التأنيث ، فلهذا السبب قال ههنا : ( في بطونه ) ، وقال في سورة المؤمنين : ( في بطونها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قوله : ( في بطونه ) أي : في بطون ما ذكرنا ، وهذا جواب الكسائي . قال المبرد : هذا شائع في القرآن . قال تعالى : ( فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ) [ الأنعام : 78 ] يعني : هذا الشيء الطالع ربي ، وقال : ( إنها تذكرة فمن شاء ذكره ) [ عبس : 11 ] أي : ذكر هذا الشيء .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا إنما يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي ، أما الذي يكون تأنيثه حقيقيا ، فلا يجوز ، فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال : جاريتك ذهب ، ولا غلامك ذهبت ، على تقدير أن نحمله على النسمة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن فيه إضمارا ، والتقدير : نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : الفرث : سرجين الكرش . روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه لبنا ، فيجري الدم في العروق واللبن في [ ص: 53 ] الضرع ، ويبقى الفرث كما هو ، فذاك هو قوله تعالى : ( من بين فرث ودم لبنا خالصا ) لا يشوبه الدم ولا الفرث .

                                                                                                                                                                                                                                            ولقائل أن يقول : الدم واللبن لا يتولدان البتة في الكرش ، والدليل عليه الحس ، فإن هذه الحيوانات تذبح ذبحا متواليا ، وما رأى أحد في كرشها لا دما ولا لبنا ، ولو كان تولد الدم واللبن في الكرش لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال ، والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه ، بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنسانا ، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها ، فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء ، ثم ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها ويصير دما ، وذلك هو الهضم الثاني ، ويكون ذلك الدم مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية ، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة ، والسوداء إلى الطحال ، والماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة ، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة ، وهي العروق النابتة من الكبد ، وهناك يحصل الهضم الثالث ، وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع ، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض من صورة الدم إلى صورة اللبن ، فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فهذه المعاني حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته ، فمزاج الذكر من كل حيوان يجب أن يكون حارا يابسا ، ومزاج الأنثى يجب أن يكون باردا رطبا ، والحكمة فيه أن الولد إنما يتكون في داخل بدن الأنثى ، فوجب أن تكون الأنثى مختصة بمزيد الرطوبات لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الولد إنما يتولد من الرطوبات ، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة لتولد الولد .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الولد إذا كبر وجب أن يكون بدن الأم قابلا للتمدد حتى يتسع لذلك الولد ، فإذا كانت الرطوبات غالبة على بدن الأم كان بدنها قابلا للتمدد ، فيتسع للولد ، فثبت بما ذكرنا أنه تعالى خص بدن الأنثى من كل حيوان بمزيد الرطوبات لهذه الحكمة ، ثم إن الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم ، فعند انفصال الجنين تنصب إلى الثدي والضرع ليصير مادة لغذاء ذلك الطفل الصغير .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فاعلم أن السبب الذي لأجله يتولد اللبن من الدم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذكر فظهر الفرق .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا التصوير فنقول : المفسرون قالوا : المراد من قوله : ( من بين فرث ودم ) هو أن هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد ، فالفرث يكون في أسفل الكرش ، والدم يكون في أعلاه ، واللبن يكون في الوسط ، وقد دللنا على أن هذا القول على خلاف الحس والتجربة ، ولأن الدم لو كان يتولد في أعلى المعدة والكرش كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم ، وذلك باطل قطعا . وأما نحن فنقول : المراد من الآية هو أن اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم ، والدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث ، وهو الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش ، وهذا اللبن متولد من الأجزاء التي كانت حاصلة فيما بين الفرث أولا ، ثم كانت حاصلة فيما بين الدم ثانيا ، فصفاه الله تعالى عن تلك الأجزاء الكثيفة الغليظة ، وخلق فيها الصفات التي [ ص: 54 ] باعتبارها صارت لبنا موافقا لبدن الطفل ، فهذا ما حصلناه في هذا المقام ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية