الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار

                                                                                                                                                                                                                                      قال رب اجعل لي آية أي: علامة تدلني على تحقق المسؤول و وقوع الحبل وإنما سألها لأن العلوق أمر خفي لا يوقف عليه، فأراد أن يطلعه الله تعالى ليتلقى تلك النعمة الجليلة من حين حصولها بالشكر ولا [ ص: 34 ] يؤخره إلى أن يظهر ظهورا معتادا، ولعل هذا السؤال وقع بعد البشارة بزمان مديد إذ به يظهر ما ذكر من كون التفاوت بين سني يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاث سنين، لأن ظهور العلامة كان عقيب تعيينها لقوله تعالى في سورة مريم: فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم الآية. اللهم إلا أن تكون المجاوبة بين زكريا ومريم في حالة كبرها، وقد عدت من جملة من تكلم في الصغر بموجب قولها المحكي، و الجعل إبداعي و اللام متعلقة به و التقديم لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر، أو بمحذوف وقع حالا من "آية". وقيل: هو بمعنى التصيير المستدعي لمفعولين، أولهما: "آية"، وثانيهما: "لي" ، و التقديم لأنه لا مسوغ لكون "آية" مبتدأ عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الجار فلا يتغير حالهما بعد دخول الناسخ. قال آيتك ألا تكلم الناس أي: أن لا تقدر على تكليمهم. ثلاثة أيام أي: متوالية لقوله تعالى في سورة مريم: ثلاث ليال سويا مع القدرة على الذكر والتسبيح و إنما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاء لحق النعمة، كأنه قيل: آية حصول المطلوب و وصول النعمة أن تحبس لسانك إلا عن شكرها، وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال. إلا رمزا أي: إشارة بيد أو رأس أو نحوهما وأصله التحرك يقال ارتمز، أي: تحرك، ومنه قيل للبحر: "الراموز"، وهو استثناء منقطع لأن الإشارة ليست من قبيل الكلام أو متصل، على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام، و لا ريب في كون الرمز من ذلك القبيل. وقرئ "رمزا" بفتحتين على أنه جمع رامز كخدم، وبضمتين على أنه جمع رموز كرسل على أنه حال منه ومن الناس معا بمعنى مترامزين كقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      متى ما تلقني فردين ترجف ... روانف إليتيك وتستطارا



                                                                                                                                                                                                                                      واذكر ربك أي: في أيام الحبسة شكرا لحصول التفضل والإنعام كما يؤذن به التعرض لعنوان الربوبية. كثيرا أي: ذكرا كثيرا أو زمانا كثيرا. وسبح أي: سبحه تعالى أو افعل التسبيح. بالعشي أي: من الزوال إلى الغروب، وقيل: من العصر إلى ذهاب صدر الليل. والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى. قيل: المراد بالتسبيح: الصلاة، بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون . وقيل: الذكر اللساني، كما أن المراد بالذكر: الذكر القلبي. وقرئ "الأبكار" بفتح الهمزة على أنه جمع بكر كسحر وأسحار.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية