الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وسارعوا إلى مغفرة من ربكم المسارعة هنا معناها:المبادرة والاتجاه الذي لا تراخي فيه، ومعنى المسارعة إلى مغفرة الله تعالى المبادرة باتخاذ طريقها، بأن يطهر قلبه من المعاصي ونفسه من الأدران، ويتجه إليه سبحانه بقلب سليم قد رحض عنه المعاصي كما رحض الثوب من الأوساخ، ولقد فسر ذو النورين قوله تعالى: إلى مغفرة من ربكم بالإخلاص، أي: بادروا بالإخلاص وتنقية القلوب إلى مغفرة الله تعالى؛ فإن ذلك هو الطريق المستقيم لطلب رضا الله تعالى، ولقد عظم سبحانه وتعالى شأن المغفرة التي ينبغي طلبها والاتجاه إليها فذكر بأنها تجيء من ربكم الذي خلقكم ونماكم ورعاكم، فهي مغفرة تعلو بعلو مصدرها وهي الأمان والاعتصام.

                                                          ويلاحظ أن القرآن يعدي المسارعة في الخير بـ " إلى " ، والمسارعة في الشر بـ " في " ، فيقول سبحانه: يسارعون في الكفر ويقول هنا: وسارعوا إلى مغفرة ؛ لأن المسارعة في الكفر تنقل في براثنه فهم في قبته المظلمة التي تحيط بهم يتنقلون بالضلال في أرجائها، وهم في مرتبة واحدة، أما المسارعة إلى الخير؛ فإنها انتقال من رتبة إلى رتبة، ومن مقام صالح إلى مقام أصلح منه. [ ص: 1411 ] وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين هذا عطف على مغفرة، وفيها إشارة إلى أن مغفرة الله سبحانه تطلب وحدها؛ لأن فيها طلب رضا الله تعالى، ورضا الله تعالى أكبر غايات المتقين، ولذا قال تعالى في جزاء المتقين: ورضوان من الله أكبر فأكابر المتقين يطلبون رضا الله لذاته لا خوفا من ناره ولا طمعا في جناته.

                                                          فالمطلب الأكبر هو المغفرة، والمطلب الذي يليه هو " جنة عرضها السماوات والأرض " وهو ما يطلبه الذين دون الصديقين والشهداء، والعرض ضد الطول، وهو أقصر منه في الغالب، والنص لبيان سعة الجنة؛ لأنها رحمة الله تعالى بعباده الأتقياء، ولذا عبر عن هذه السعة بأوسع ما يدركه الحس، وأوسع ما يعلمه الناس من خلقه سبحانه، وقد يقول قائل: لم ذكر العرض، ولم يذكر الطول، وهو أدل على الانفراج والبسط؟ والجواب عن ذلك: أن ذكر العرض أبلغ في الدلالة؛ لأنه إذا كان عرضها كعرض السماوات والأرض فإنه يذهب العقل في إدراك طولها كل مذهب، ويتصور الكثير من الصور، وذلك كقول الله تعالى: بطائنها من إستبرق فإنه إذا كانت البطانة من الحرير الثمين فكيف يكون ما فوق البطانة مما تراه الأعين ويسر الناظرين؛ وقد يقال: إن ذكر العرض ذكر للطول فإن تنسيق البيان يوجب المساواة بين طول الجنة وطول السماوات والأرض، كما أن عرضها كعرضهما، ويكون ذلك من الإيجاز البليغ.

                                                          وقد فسر أبو مسلم الأصفهاني - العرض هنا - بالأشياء القيمية المعروضة للبيع التي جمعها عروض، ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس " ، ويكون المعنى على هذا التفسير أن الجنة في قيمتها وعلوها وسموها ومكانتها تعادل السماوات والأرض في قيمتهما، فهي الحياة وهي النعيم المقيم الدائم: " أعدت للمتقين " أي: هيئت ووضعت للمتقين، وهم [ ص: 1412 ] الذين جعلوا بينهم وبين الشر وقاية أي: جعلوا أنفسهم في حصن فلا مدخل للشيطان إليها، ولا سارب له في قلوبهم، وصار ذلك شأنا من شئونهم حتى كان وصفا وحالا دائمة مستمرة لهم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية