الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( باب خيار الرؤية )

                                                                                        قدمه على خيار العيب لأنه يمنع تمام الحكم وذلك يمنع لزوم الحكم واللزوم بعد التمام والإضافة من قبيل إضافة الشيء إلى شرطه لأن الرؤية شرط ثبوت الخيار وعدم الرؤية هو السبب لثبوت الخيار عند الرؤية ثم اعلم أن هذا الخيار يثبت للمشتري في شراء الأعيان ولا يثبت في الديون كالمسلم فيه والأثمان وأما في رأس مال السلم إن كان عينا فإنه يثبت للبائع أي المسلم إليه الخيار فيه ولا يثبت في كل عقد لا ينفسخ بالرد كالمهر وبدل الخلع وبدل الصلح عن القصاص .

                                                                                        والرد بخيار الرؤية فسخ قبل القبض وبعده ولا يحتاج إلى قضاء ولا رضا البائع وينفسخ بقوله رددت إلا أنه لا يصلح الرد إلا بعلم البائع عند هما خلافا للثاني وهو يثبت حكما لا بالشرط ولا يتوقت ولا يمنع وقوع الملك للمشتري حتى أنه لو تصرف فيه جاز تصرفه وبطل خياره ولزمه الثمن وكذا لو هلك في يده أو صار إلى حال لا يملك فسخه بطل خياره كذا في السراج الوهاج وذكر في المعراج أن خيار الرؤية لا يثبت إلا في أربعة أشياء في الشراء والإجارة والقسمة والصلح عن دعوى المال على شيء بعينه .

                                                                                        وفي المعراج لا يطالب البائع المشتري بالثمن قبل الرؤية ( قوله شراء ما لم يره جائز ) أي صحيح لما رواه ابن أبي شيبة والبيهقي مرسلا عن مكحول مرفوعا { من اشترى شيئا لم يره فله الخيار إذا رآه إن شاء أخذه وإن شاء تركه } وجهالته بعدم الرؤية لا تفضي إلى المنازعة لأنه لو لم يوافقه برده فصار كجهالة الوصف في المعاين المشار إليه وإطلاق الكتاب يقتضي جواز البيع سواء سمى جنس المبيع أو لا وسواء أشار إلى مكانه أو إليه وهو حاضر مستور أو لا مثل أن يقول بعت منك ما في كمي وعامة المشايخ .

                                                                                        قالوا إطلاق الجواب يدل على الجواز عنده وطائفة قالوا لا يجوز لجهالة المبيع من كل وجه والظاهر أن المراد بالإطلاق ما ذكره شمس الأئمة وصاحب الأسرار والذخيرة من أن الإشارة إليه أو إلى مكانه شرط الجواز حتى لو لم يشر إليه ولا إلى مكانه لم يجز بالإجماع مثل أن يشتري ثوبا في جراب أو زيتا في زق أو حنطة في غرارة من غير أن يرى شيئا ومنه أن يقول بعتك درة في كمي صفتها كذا أو لم يقل صفتها كذا أو هذه الجارية وهي حاضرة متنقبة لبعد القول بجواز ما لم يعلم جنسه أصلا كأن يقول بعتك شيئا بعشرة كذا في فتح القدير .

                                                                                        وأراد بما علم لم يره ما لم يره وقت العقد ولا قبله والمراد بالرؤية العلم بالمقصود من باب عموم المجاز [ ص: 29 ] فصارت الرؤية من أفراد المعنى المجاز ليشمل ما إذا كان المبيع مما يعرف بالشم كالمسك وما اشتراه بعد رؤيته فوجده متغيرا وما اشتراه الأعمى وفي القنية اشترى ما يذاق فذاقه ليلا ولم يره سقط خياره .

                                                                                        ( قوله وله أن يرده إذا رآه وإن رضي قبله ) أي للمشتري رده وإن قال رضيت قبل العلم به وأعاد الضمير مذكرا للمعنى لأن الخيار معلق بالرؤية لما روينا فلا يثبت قبلها وأورد طلب الفرق بين الفسخ والإجازة قبلها فإنها غير لازمة وهو لازم مع استوائهما في التعلق بالشرط والجواب أن للفسخ سببا آخر وهو عدم لزوم هذا العقد وما كان ليس بلازم فللمشتري فسخه ولم يثبت لها سبب آخر فبقيت على العدم ومنعه في فتح القدير بأنا لا نسلم أنه قبلها غير لازم بل نقول إنه بات وإنما يحصل له عدم اللزوم عندها فقبلها يثبت حكم السبب وهو اللزوم ا هـ .

                                                                                        وهو مردود لأن اللازم ما لا يقبل الفسخ من أحدهما بدون رضا الآخر وهذا يقبله إذا رآه وفي المحيط قيل لا يملك فسخه قبلها وقيل يملكه وهو الأصح لأن الفسخ كما يملك بالخيار يملك بسبب عدم لزوم البيع كالعارية الوديعة والوكالة والشركة وعدم اللزوم ثابت بسبب جهالة المبيع واختلفوا هل هو مطلق أو مؤقت فقيل مؤقت بوقت إمكان الفسخ بعدها حتى لو تمكن منه ولم يفسخ سقط خياره وإن لم توجد الإجازة صريحا ولا دلالة وقيل يثبت الخيار له مطلقا نص عليه في نوادر ابن رستم وذكر محمد في الأصل وهو الصحيح لإطلاق النص والعبرة لعين النص لا لمعناه ا هـ .

                                                                                        وحاصله أنه غير لازم قبل الرؤية بسبب جهالة المبيع وإذا رآه حدث له سبب آخر بعد لزومه وهو الرؤية ولا مانع من اجتماع الأسباب على مسبب واحد ثم اعلم أنه لا يملك فسخه إلا بعلم البائع وقيد بخيار الرؤية لأنه لو قال وله خيار العيب رضيت به قبل أن يراه ثم رآه فلا خيار له لأن سبب الخيار فيه العيب وهو موجود قبل العلم بخلافه هنا فافترقا كذا في المعراج وفي إيضاح الإصلاح ولمشتريه الخيار عنده إلى أن يوجد مبطله وإن قال رضيت قبلها لم يقل وإن رضي قبلها لما فيه من إيهام تحقق الرضا قبلها وفساده ظاهر ا هـ .

                                                                                        ويرد عليه البيع بشرط البراءة من العيوب فإنه صحيح وقالوا إنه رضي بجميع عيوبه الظاهرة والباطنة مع أنه لم يطلع عليها حتى لو اطلع على عيب باطني لا يعلمه إلا الأطباء لا يملك رده فجاز تحقق الرضا قبل العلم والرؤية وفي جامع الفصولين خيار الرؤية وخيار العيب لا يثبتان في البيع الفاسد وفي المحيط اشترى رواية ماء فله الخيار إذا رآه لأن بعض الماء أطيب من بعض ا هـ .

                                                                                        فعلى هذا له رد الماء بعد صبه في الجب حيث لم يره قبله أي الزير ولكن سيأتي أن البائع إذا حمله إلى منزل المشتري امتنع رده إلا إذا حمله إليه وفي حيل الولوالجية رجل باع ضيعة ولم يرها المشتري فأراد أن يبيعها على وجه لا يكون له خيار الرؤية فالحيلة أن يقر بثوب لإنسان ثم يبيع الثوب مع الضيعة ثم المقر له يستحق الثوب المقر به فيبطل خيار المشتري لأنه اشترى شيئين صفقة واحدة وقد استحق أحدهما فليس له أن يرد الباقي بخيار الرؤية لأن فيه تفريق الصفقة على البائع ا هـ .

                                                                                        ( قوله ولا خيار لمن باع ما لم يره ) وهو قول الإمام المرجوع إليه لأنه معلق بالشراء فلا يثبت دونه وروي [ ص: 30 ] أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه باع أرضا بالبصرة من طلحة بن عبد الله فقيل لطلحة إنك قد غبنت فقال لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره وقيل لعثمان إنك قد غبنت فقال لي الخيار لأني بعت ما لم أره فحكما بينهما جبير بن مطعم فقضى بالخيار لطلحة وكان ذلك بمحضر من الصحابة كذا في الهداية وهذا الأثر رواه الطحاوي ثم البيهقي ( فائدة )

                                                                                        ذكر شيخ الإسلام بن حجر في تقريب التهذيب جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي صحابي عارف بالأنساب مات سنة ثمان أو سبع وخمسين ومراده البيع بثمن أما إذا باع سلعة بسلعة ولم ير كل منهما ما يحصل له من العوض كان لكل واحد منهما الخيار لأن كل واحد منهما مشتر للعوض الذي يحصل له كذا في السراج الوهاج وفي جامع الفصولين يثبت الخيار للبائع في الثمن لو عينا والكيلي والوزني إذا كانا عينا فهما كسائر الأعيان وكذا التبر من الذهب والفضة والأواني ولا يثبت خيار الرؤية فيما ملك دينا في الذمة كالسلم والدراهم والدنانير عينا كان أو دينا والكيلي والوزني لو لم يكن عينا فهما كنقدين لا يثبت فيهما خيار الرؤية إذا قبضا . ا هـ .

                                                                                        وفي الظهيرية لو اشترى جارية بعبد وألف فتقابضا ثم رد بائع الجارية العبد بخيار الرؤية لم ينتقض البيع في الجارية بحصة الألف وفي المحيط باع عينا بعين لم يرها وبدين ثم رآها فردها ينتقض البيع في حصة العين ولا ينتقض في حصة الدين لأنه لا خيار في حصته ا هـ .

                                                                                        [ ص: 28 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 28 ] ( باب خيار الرؤية ) .

                                                                                        ( قوله وأما في رأس مال السلم إلخ ) هكذا في بعض النسخ وفي بعضها وأما السلم ففي رأس المال إن كان إلخ ( قوله مثل أن يشتري ثوبا في جراب إلخ ) تمثيل لما وجد فيه شرط الجواز وقد مر في عبارة الفتح [ ص: 29 ] ( قوله اشترى ما يذاق فذاقه ليلا إلخ ) قال الرملي مفهومه أن ما لا يذاق لو اشتراه ليلا لا يسقط خياره إلا برؤيته ولا يشك فيه شاك والظاهر أن النهار فيما يذاق كالليل أيضا فيسقط خياره بذوقه من غير رؤية فلو أسقط لفظة ليلا لكان أولى ا هـ .

                                                                                        قلت : إنما قيد به ليفيد أن مجرد الذوق فيما يذاق إذا حصل به المقصود يكفي وإن لم توجد رؤية ويفهم بالأولى أنه إذا ذاقه نهارا وهو يراه كفي ( قوله وأعاد الضمير مذكرا للمعنى ) أي أن حقه التأنيث لعوده إلى الرؤية لكن لما كان المراد بالرؤية العلم كما تقدم ذكر الضمير مراعاة للمعنى ( قوله ومنعه في فتح القدير بأنا لا نسلم إلخ ) ما بنى عليه المنع من أنه بات هو المفهوم من كلام العناية حيث تعقب الجواب المذكور بأن عدم اللزوم باعتبار الخيار فهو ملزوم الخيار والخيار معلق بالرؤية لا يوجد بدونها فكذا ملزومه لأن ما هو شرط للازم فهو شرط للملزوم . ا هـ .

                                                                                        وأجاب عن هذا التعقب في الحواشي السعدية بأنا لا نسلم أن عدم لزومه للخيار بل لعدم وقوعه منبرما غاية ما في الباب أن عدم الانبرام باعتبار أنه يثبت له الخيار عند الرؤية وهذا لا يستلزم عدم وجوده بدونها وقوله والخيار إلخ ممنوع لأن المعلق بالشرط يوجد قبل وجود الشرط بسبب آخر . ( قوله وهو مردود إلخ ) قال في النهر ما ذكره هو بالرد أليق لأن الشارع حيث علق إثبات قدرة الفسخ والإجازة بالرؤية لزم القول بلزومه قبله ا هـ .

                                                                                        وهو مندفع بما مر عن الحواشي تأمل ( قوله لأنه لو قال وله خيار العيب ) الواو للحال أي والحال أن له خيار العيب .




                                                                                        الخدمات العلمية