الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) ومن أتى امرأة أجنبية في دبرها فعليه الحد في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى والتعزير في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وكذلك اللواط عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يوجب التعزير عليهما ، وعندهما يحدان حد الزنا يرجمان إن كانا محصنين ويجلدان إن كانا غير محصنين ، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله ، وفي قول آخر قال : يقتلان على كل حال لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { اقتلوا الفاعل والمفعول به } وفي رواية { ارجموا الأعلى والأسفل } وتأويل ذلك عندنا في حق من استحل ذلك الفعل ، فإنه يصير مرتدا فيقتل لذلك وهو تأويل الحديث الذي روي { من أتى امرأته الحائض أو أتى امرأته في غير مأتاها فقد كفر بما أنزل على محمد } يعني إذا استحل ذلك .

( وحجتهما ) أن هذا الفعل زنى فيتعلق به حد الزنا بالنص ، فأما من حيث الاسم فلأن الزنا فاحشة ، وهذا الفعل فاحشة بالنص قال الله تعالى { أتأتون الفاحشة } ومن حيث المعنى أن الزنا فعل معنوي له غرض وهو إيلاج الفرج في الفرج على وجه محظور لا شبهة فيه لقصد سفح الماء وقد وجد ذلك كله ، فإن القبل والدبر كل واحد منهما فرج يجب ستره شرعا ، وكل واحد منهما مشتهى طبعا حتى إن من لا يعرف الشرع لا يفصل بينهما ، والمحل إنما يصير مشتهى طبعا لمعنى الحرارة واللين وذلك لا يختلف بالقبل والدبر ولهذا وجب [ ص: 78 ] الاغتسال بنفس الإيلاج في الموضعين ولا شبهة في تمحض الحرمة هنا ; لأن المحل باعتبار الملك ، ويتصور هذا الفعل مملوكا في القبل ولا يتصور في الدبر فكان تمحض الحرمة هنا أبين ، ومعنى سفح الماء هنا أبلغ منه في القبل ; لأن هناك المحل منبت فيتوهم أن يكون الفعل حرثا وإن لم يقصد الزاني ذلك ، ولا توهم هنا فكان تضييع الماء هنا أبين ، وليس هذا الكلام على سبيل القياس فالحد بالقياس لا يثبت ولكن هذا إيجاب الحد بالنص وما كان اختلاف اسم المحل إلا كاختلاف اسم الفاعل فإن النص ورد بالحد في حق ماعز رضي الله عنه ، فإيجاب الحد على الغير بذلك الفعل لا يكون قياسا ، فكذلك هنا ورد النص بإيجاب الحد على من باشر هذا الفعل في محل هو قبل فإيجابه على المباشر في محل هو دبر بعد ثبوت المساواة في جميع المعاني لا يكون قياسا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول : هذا الفعل ليس بزنا لغة ، ألا ترى أنه ينفى عنه هذا الاسم بإثبات غيره ؟ فيقال : لاط وما زنى ، وكذلك أهل اللغة فصلوا بينهما قال القائل :


من كف ذات حر في زي ذي ذكر لها محبان لوطي وزناء



فقد غاير بينهما في الاسم ولا بد من اعتبار اسم الفعل الموجب للحد ، ولهذا لا يجب القطع على المختلس والمنتهب .

والذي ورد في الحديث { إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان } مجاز لا تثبت حقيقة اللغة به والمراد في حق الإثم ، ألا ترى أنه قال { وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان } والمراد في حق الإثم دون الحد ، كما أن الله تعالى سمى هذا الفعل فاحشة فقد سمى كل كبيرة فاحشة فقال {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } ثم هذا الفعل دون الفعل في القبل في المعنى الذي لأجله وجب حد الزنا من وجهين :

أحدهما ، أن الحد مشروع زجرا وطبع كل واحد من الفاعلين يدعو إلى الفعل في القبل وإذا آل الأمر إلى الدبر كان المفعول به ممتنعا من ذلك بطبعه فيتمكن النقصان في دعاء الطبع إليه ، والثاني : أن حد الزنا مشروع صيانة للفراش ، فإن الفعل في القبل مفسد للفراش ويتخلق الولد من ذلك الماء لا والد له ليؤدبه فيصير ذلك جرما يفسد بسببه عالم ، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله { وولد الزنا شر الثلاثة } .

وإذا آل الأمر إلى الدبر ينعدم معنى فساد الفراش ، ولا يجوز أن يجبر هذا النقصان بزيادة الحرمة من الوجه الذي قالا ; لأن ذلك يكون مقايسة ، ولا مدخل لها في الحدود ، ثم اختلف الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة فالمروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنهما يحرقان بالنار وبه [ ص: 79 ] أمر في السبعة الذين وجدوا على اللواطة ، وكان علي رضي الله عنه يقول : يجلدان إن كانا غير محصنين ويرجمان إن كانا محصنين ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : يعلى أعلى الأماكن من القرية ثم يلقى منكوسا فيتبع بالحجارة وهو قوله تعالى { فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة } الآية ، وكان ابن الزبير رضي الله عنه يقول يحبسان في أنتن المواضع حتى يموتا نتنا ، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى اتفقت الصحابة رضي الله عنهم أنه لا يسلم لهما أنفسهما ، وإنما اختلفوا في كيفية تغليظ عقوبتهما فأخذنا بقولهم فيما اتفقوا عليه ورجحنا قول علي رضي الله عنه بما يوجب عليهم من الحد وأبو حنيفة رحمه الله يقول : الصحابة اتفقوا على أن هذا الفعل ليس بزنا ; لأنهم عرفوا نص الزنا ومع هذا اختلفوا في موجب هذا الفعل ، ولا يظن بهم الاجتهاد في موضع النص فكان هذا اتفاقا منهم أن هذا الفعل غير الزنا ولا يمكن إيجاب حد الزنا بغير الزنا بقيت هذه جريمة لا عقوبة لها في الشرع مقدرة فيجب التعزير فيه يقينا ، وما وراء ذلك من السياسة موكول إلى رأي الإمام إن رأى شيئا من ذلك في حق فله أن يفعله شرعا

التالي السابق


الخدمات العلمية