الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل :

339 - قال الواقدي : فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة سنة اجتمعت قريش أن يجهزوا عيرا إلى الشام بتجارات ، وأموال عظام ، وأجمع أبو طالب المسير في تلك العير ، فلما تهيأ له المسير أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشخص معه ، فرق عليه أبو طالب ، فكلمه عمومته ، وعماته ، وقالوا لأبي طالب : مثل هذا الغلام لا تخرج به تعرضه للأرياف ، والأوباء ، فهم أبو طالب بتخليفه ، فرآه يبكي ، فقال : ما لك يا ابن أخي ؟ لعل بكاءك من أجل أني أريد أن أخلفك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، فقال أبو طالب : فإني لا أفارقك أبدا ، فاخرج معي ، فخرج معه ، فلما نزل الركب بصرى من الشام ، وبها راهب يقال له : بحيراء في صومعته ، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة قبل ذلك لا يكلمهم حتى كان ذلك العام ، فنزلوا قريبا من صومعته ، فصنع لهم طعاما ، ودعاهم ، وإنما حمله على ذلك أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين القوم حتى نزلوا تحت الشجرة ، ثم نظر إلى تلك الغمامة قد أظلت الشجرة واخضرت أغصان الشجرة على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى استظل ، فلما رأى ذلك بحيراء نزل من صومعته ، وأمر بذلك الطعام ، فأتي به ، وأرسل إليهم يا معشر قريش ، إني قد صنعت لكم طعاما ، فأنا أريد أن تحضروه ، ولا تخلفوا منكم صغيرا ، ولا كبيرا ، ولا حرا ولا عبدا ، فإن هذا شيء تكرمونني به ، فقال رجل من القوم : إن لك لشأنا اليوم يا بحيراء ، ما كنت تصنع بنا مثل هذا ، فما شأنك اليوم ، فاجتمعوا إليه ، وتخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحداثة سنه ليس في القوم أصغر منه يبصر رحالهم تحت الشجرة ، فلما نظر بحيراء إلى القوم جعل ينظر ، فلا يرى الغمامة على أحد من القوم ، ويراها متحلقة على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : خيرا يا معشر قريش ، قالوا : ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالنا ، قال : ادعوه ، فليحضر طعامي ، فقام الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف ، فقال : والله إن كان بنا للوم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا ، ثم قام إليه ، فاحتضنه ، وأقبل به حتى أجلسه على الطعام ، والغمامة تسير على رأسه ، وانقلعت الشجرة من أصلها حين فارقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وجعل بحيراء يلحظه لحظا شديدا ، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته ، فلما تفرقوا عن طعامهم قام إليه بحيراء ، فقال : يا غلام ، أسألك بحق اللات والعزى ألا أخبرتني [ ص: 231 ] عما أسألك عنه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وأي حق لهما عندي ؟ لا تسألني بحق اللات والعزى ، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما ، وما تأملتهما بالنظر إليهما كراهة لهما ، ولكن سلني بالله أخبرك عما تسألني إن كان عندي علم ، قال بحيراء : ، فبالله أسألك ، وجعل يسأله عن أشياء من حاله ، فيخبره حتى سأل عن نومه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تنام عيني ، ولا ينام قلبي ، وجعل ينظر في عينيه إلى حمرة ، ثم قال لقومه : أخبروني عن هذه الحمرة تأتي ، وتذهب ، أو لا تفارقه ، قالوا : ما رأيناها فارقته قط ، وكلمه أن ينزع جبة عليه لينظر إلى ظهره ، فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزعها حتى كلمه أبو طالب ، فنزعها ، فنظر إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة فاقشعرت كل شعرة في رأسه ، وقبل موضع الخاتم ، فجعلت قريش تقول : إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا ، ثم قال الراهب لأبي طالب : ما هذا الغلام منك ، قال : ابني ، قال بحيراء : ما هو بابنك ، ما ينبغي أن يكون أبوه حيا ، قال : فإنه ابن أخي ، قال : فما فعل أبوه ؟ قال أبو طالب : توفي وأمه حبلى به ، قال : فما فعلت أمه ؟ قال : توفيت قريبا ، قال : صدقت ، ارجع بابن أخيك إلى بلدك ، واحذر عليه اليهود ، فوالله لئن رأوه ، وعرفوا منه الذي أعرف ليبغنه عنتا ، فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم نجده في كتبنا ، وقد أخذ علينا مواثيق ، قال أبو طالب : من أخذه عليكم ؟ فتبسم الراهب ، ثم قال : الله أخذه علينا نزل به عيسى ابن مريم ، فأقلل اللبث ، وارجع به إلى أهله ، فإني قد أديت إليك النصيحة ، فإن إنه من غيرها يحسدوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية