الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى

قوله تعالى : وأنه هو أضحك وأبكى ذهبت الوسائط وبقيت الحقائق لله سبحانه وتعالى فلا فاعل إلا هو ; وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : لا والله ما قال رسول الله قط : إن الميت يعذب ببكاء أحد ، ولكنه قال : إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا وإن الله لهو أضحك وأبكى وما تزر وازرة وزر أخرى . وعنها قالت : مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أصحابه وهم يضحكون ، فقال : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا فنزل عليه جبريل فقال : يا محمد ! إن الله يقول لك : وأنه هو أضحك وأبكى . فرجع إليهم [ ص: 108 ] فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال : ايت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول : هو أضحك وأبكى أي قضى أسباب الضحك والبكاء . وقال عطاء بن أبي مسلم : يعني أفرح وأحزن ; لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء . وقيل لعمر : هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون ؟ قال : نعم ! والإيمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي . وقد تقدم هذا المعنى في ( النمل ) و ( التوبة ) . قال الحسن : أضحك الله أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار . وقيل : أضحك من شاء في الدنيا بأن سره وأبكى من شاء بأن غمه . الضحاك : أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر . وقيل : أضحك الأشجار بالنوار ، وأبكى السحاب بالأمطار . وقال ذو النون : أضحك قلوب المؤمنين والعارفين بشمس معرفته ، وأبكى قلوب الكافرين والعاصين بظلمة نكرته ومعصيته . وقال سهل بن عبد الله : أضحك الله المطيعين بالرحمة وأبكى العاصين بالسخط . وقال محمد بن علي الترمذي : أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا . وقال بسام بن عبد الله : أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم . وأنشد :

السن تضحك والأحشاء تحترق وإنما ضحكها زور ومختلق     يا رب باك بعين لا دموع لها
ورب ضاحك سن ما به رمق

وقيل : إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان ، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان . وقد قيل : إن القرد وحده يضحك ولا يبكي ، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك . وقال يوسف بن الحسين : سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة ؟ فقال : ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم .

وأنه هو أمات وأحيا أي قضى أسباب الموت والحياة . وقيل : خلق الموت والحياة كما قال : الذي خلق الموت والحياة قاله ابن بحر . وقيل : أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان ; قال الله تعالى : أو من كان ميتا فأحييناه الآية . وقال : إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله [ ص: 109 ] على ما تقدم ، وإليه يرجع قول عطاء : أمات بعدله وأحيا بفضله . وقول من قال : أمات بالمنع والبخل وأحيا بالجود والبذل . وقيل : أمات النطفة وأحيا النسمة . وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء . وقيل : يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب . وقيل : أنام وأيقظ . وقيل : أمات في الدنيا وأحيا للبعث .

وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى أي من أولاد آدم ولم يرد آدم وحواء بأنهما خلقا من نطفة . والنطفة الماء القليل ، مشتق من نطف الماء إذا قطر . تمنى تصب في الرحم وتراق ; قاله الكلبي والضحاك وعطاء بن أبي رباح . يقال : منى الرجل وأمنى من المني ، وسميت منى بهذا الاسم لما يمنى فيها من الدماء أي يراق . وقيل : تمنى تقدر ; قاله أبو عبيدة . يقال : منيت الشيء إذا قدرته ، ومني له أي قدر له ; قال الشاعر أبو قلابة الهذلي :

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

أي ما يقدر لك القادر .

التالي السابق


الخدمات العلمية