الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (64) قوله تعالى : إلى كلمة : متعلق بتعالوا فذكر مفعول "تعالوا " بخلاف "تعالوا " قبلها فإنه لم يذكر مفعوله ، لأن المقصود مجرد الإقبال ، ويجوز أن يكون حذفه للدلالة عليه تقديره : تعالوا إلى المباهلة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة "كلمة " بفتح الكاف وكسر اللام ، وهو الأصل . وأبو السمال "كلمة " بزنة سدرة ، وكلمة كضربة ، وتقدم هذا قريبا . و "كلمة " مفسرة بما بعدها من قوله : ألا نعبد فالمراد بها كلام كثير ، وهذا من باب إطلاق الجزء ، والمراد به الكل ، ومنه تسميتهم القصيدة جمعا : قافية ، والقافية جزء منها ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1318 - أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني     وكم علمته نظم القوافي
                                                                                                                                                                                                                                      فلما قال قافية هجاني



                                                                                                                                                                                                                                      ويقولون : "كلمة الشهادة " يعنون : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد " يريد قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 232 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1319 - ألا كل شيء ما خلا الله باطل     وكل نعيم لا محالة زائل



                                                                                                                                                                                                                                      وهذا كما يسمون الشيء بجزأيه في الأعيان لأنه المقصود منه ، قالوا لربيبة القوم - وهو الذي ينظر لهم ما يحتاجون إليه - عين ، فأطلقوا عليه عينا . وقال بعضهم : وضع المفرد موضع الجمع ، كما قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1320 - بها جيف الحسرى فأما عظامها     فبيض وأما جلدها فصليب



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : أطلقت الكلمة على الكلمات لارتباط بعضها ببعض ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة ، إذا اختل جزء منها اختلت الكلمة ، لأن كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، هي كلمات لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في الله إلا بمجموعها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة : "سواء " بالجر نعتا لكلمة بمعنى عدل ، ويدل عليه قراءة عبد الله : "إلى كلمة عدل " وهذا تفسير لا قراءة . و "سواء " في الأصل مصدر ، ففي الوصف التأويلات الثلاثة المعروفة ، ولذلك لم يؤنث كما لم يؤنث بـ "امرأة عدل " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن : "سواء " بالنصب وفيها وجهان ، أحدهما : نصبها على المصدر ، قال الزمخشري : "بمعنى استوت استواء " ، وكذا الحوفي . والثاني : أنه منصوب على الحال ، وجاءت الحال من النكرة ، وقد نص سيبويه عليه واقتاسه ، وكذا قال الشيخ ، ولكن المشهور غيره ، والذي حسن مجيئها [ ص: 233 ] من النكرة هنا كون الوصف بالمصدر على خلاف الأصل ، والصفة والحال متلاقيان من حيث المعنى ، وكأن الشيخ غض من تخريج الزمخشري والحوفي فقال : "والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى ، والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل وإلى تأويل " سواء "بمعنى استواء ، والأشهر استعمال " سواء "بمعنى اسم الفاعل أي : " مستو "قلت : وبذلك فسرها ابن عباس فقال : " إلى كلمة مستوية " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ألا نعبد فيه ستة أوجه ، أحدها : أنه بدل من " كلمة "بدل كل من كل ، الثاني : أنه بدل من " سواء " ، جوزه أبو البقاء ، وليس بواضح ، لأن المقصود إنما هو الموصوف لا صفته ، فنسبة البدلية إلى الموصوف أولى . وعلى الوجهين فإن وما في حيزها في محل جر . الثالث : أنه في محل رفع خبرا لمبتدأ مضمر ، والجملة استئناف جواب لسؤال مقدر ، لأنه لما قيل : تعالوا إلى كلمة "قال قائل : ما هي ؟ فقيل : هي أن لا نعبد ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة فـ " بين "منصوب بسواء ظرف له أي : يقع الاستواء في هذه الجهة ، وقد صرح بذلك زهير حيث قال :


                                                                                                                                                                                                                                      1321 - أرونا خطة لا غيب فيها     يسوي بيننا فيها السواء



                                                                                                                                                                                                                                      والوقف التام حينئذ عند قوله من دون الله لارتباط الكلام معنى وإعرابا . الرابع : أن تكون " أن "وما في حيزها في محل رفع بالابتداء ، والخبر الظرف قبله .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : جوز أبو البقاء أن يكون فاعلا بالظرف قبله ، وهذا إنما [ ص: 234 ] يتأتى على رأي الأخفش ، إذ لم يعتمد الظرف ، وحينئذ يكون الوقف على " سواء "ثم يبتدأ بقوله : بيننا وبينكم ألا نعبد وهذا فيه بعد من حيث المعنى ثم إنهم جعلوا هذه الجملة صفة لكلمة ، وهذا غلط لعدم رابط بين الصفة والموصوف وتقدير العائد ليس بالسهل ، وعلى هذا فقول أبي البقاء : " وقيل : تم الكلام على "سواء " ثم استأنف فقال : بيننا وبينكم ألا نعبد أي بيننا وبينكم التوحيد ، فعلى هذا يكون "أن لا نعبد " مبتدأ ، والظرف خبره ، والجملة صفة للكلمة " غير واضح ، لأنه من حيث جعلها صفة كيف يحسن أن يقول : تم الكلام على " سواء "ثم استأنف ، بل كان الصواب على هذا الإعراب أن تكون الجملة استئنافية كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      السادس : أن يكون " أن لا نعبد "مرفوعا بالفاعلية بسواء ، وإلى هذا ذهب الزماني فإن التقدير عنده : إلى كلمة مستوفيها بيننا وبينكم عدم عبادة غير الله تعالى ، قال الشيخ : " إلا أن فيه إضمار الرابط وهو "فيها " وهو ضعيف " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فإن تولوا فقولوا قال أبو البقاء : " هو ماض ولا يجوز أن يكون التقدير : "فإن تتولوا " لفساد المعنى لأن قوله : فقولوا اشهدوا خطاب للمؤمنين وتتولوا "للمشركين ، وعند ذلك لا يبقى في الكلام جواب الشرط والتقدير : فقولوا : لهم . وهذا الذي قاله ظاهر جدا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية