الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 172 ] 9 - باب

                                الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء

                                خرج فيه حديثين:

                                الحديث الأول:

                                358 365 - حدثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال: " أوكلكم يجد ثوبين؟ " ثم سأل رجل عمر، فقال: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء، في تبان وقباء، في تبان وقميص. قال: وأحسبه قال: في تبان ورداء .

                                التالي السابق


                                قد تقدم حديث أبي هريرة هذا من وجه آخر عنه، وذكرنا أن قوله: " أولكلكم ثوبان ؟ " " أوكلكم يجد ثوبين ؟ " إشارة إلى أنه لو لم تشرع الصلاة في ثوب واحد لشق على كثير منهم ; فإنه كان فقيرا لا يجد ثوبين.

                                وفيه إشارة - أيضا - إلى أن الصلاة في الثوب الواحد إنما شرعت لقلة الثياب حينئذ، فلما كثرت الثياب، ووسع الله على المسلمين بفتح البلاد عليهم وانتقال ملك فارس والروم إليهم أمر عمر رضي الله عنه حينئذ بالصلاة في ثوبين ثوبين ; لزوال المعنى الذي كان لأجله شرعت الصلاة في ثوب واحد.

                                وكل ما يلبس على البدن فهو ثوب، سواء كان شاملا له أو لبعضه، وسواء كان مخيطا أو غير مخيط، فالإزار ثوب، والرداء ثوب، والقميص ثوب، والقباء ثوب، والسراويل ثوب، والتبان ثوب، فلهذا قال عمر : إذا وسع الله [ ص: 173 ] عليكم فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء، والإزار: ما يشده على وسطه، والرداء: ما يلقيه على منكبيه، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء، في تبان وقباء، في تبان وقميص. وشك الراوي: هل قال: في تبان ورداء؟

                                والتبان والرداء: بمنزلة السراويل والرداء.

                                فكل من هذه الأنواع التي ذكرها عمر رضي الله عنه صلاة في ثوبين ثوبين.

                                وقد روى الجريري ، عن أبي نضرة ، قال: قال أبي بن كعب : الصلاة في الثوب الواحد سنة، كنا نفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعاب علينا ، فقال ابن مسعود : إنما كان ذاك إذ كان في الثياب قلة، فأما إذ وسع الله فالصلاة في الثوبين أزكى.

                                خرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في " المسند " وفيه انقطاع.

                                وخرجه الدارقطني في " علله " من رواية داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، فصار متصلا. وذكر أنه روي عن داود ، عن أبي نضرة ، عن جابر .

                                وروى وكيع في " كتابه " عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، قال: اختلف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب في الصلاة في الثوب الواحد، فقال أبي : في ثوب، وقال ابن مسعود : في ثوبين، فبلغ ذلك عمر ، فقال: القول ما قال أبي ، ولم يأل ابن مسعود عن الخير .

                                وهذا منقطع أيضا.

                                [ ص: 174 ] وروى ابن وهب ، عن مخرمة بن بكير ، عن أبيه، عن سعيد ، قال: قال: [...]: كنا نصلي في ثوب واحد، حتى جاء الله بالثياب، فقال: صلوا في ثوبين، فقال أبي بن كعب : ليس هذا في شيء، قد كنا نصلي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثوب الواحد، ولنا ثوبان، قيل لعمر بن الخطاب : ألا تقضي بين هذين - وهو جالس -؟ قال: أنا مع أبي .

                                وظاهر كلام أبي بن كعب أن الصلاة في ثوب واحد أفضل، وكذلك كان يفعله جابر بن عبد الله وغيره.

                                ويحتمل: أنهم أرادوا بذلك بيان الجواز؛ لئلا يتوهم متوهم أنه لا تجوز الصلاة في ثوب واحد، ويدل على هذا الاحتمال: أن عمر قد صح عنه الأمر بالصلاة في ثوبين - كما خرجه عنه البخاري - فعلم أنه أراد تارة بيان الجائز، وتارة بيان الأفضل.

                                وأكثر العلماء على استحباب الصلاة في ثوبين ، وقد تقدم عن ابن عمر وغيره، وهو قول أكثر الفقهاء، منهم: مالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد .

                                ويتأكد استحبابه عند مالك وأحمد في حق الإمام أكثر من غيره، وظاهر كلام أحمد : كراهته للإمام دون المنفرد، وكره مالك ذلك لأئمة المساجد إلا من يؤم في سفر أو في بيته، فإن ذلك من زينة الصلاة المأمور بها، والإمام هو المنظور إليه، فيتأكد استحباب الزينة في حقه.

                                ويدل على هذا: أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الثوب الواحد، إنما كان تارة في [ ص: 175 ] بيته كما في حديث عمر بن أبي سلمة ، وتارة في السفر كما في حديث جابر .

                                وقد روي عن طائفة من السلف تفضيل بعض أنواع الثوبين على بعض: فقال أبو مالك : الصلاة في الإزار والقباء أحب إلي من الصلاة في القميص والإزار.

                                وعن النخعي ، قال: الصلاة في التبان والرداء أحب إلي من الصلاة في القميص والرداء.

                                والظاهر: أنه فضل التبان والسراويل على الإزار ; لأنه يواري العورة عن الأرض، فقد روي عنه: أنه كره أن يفضي بفرجه إلى الأرض في الصلاة.

                                وأما إن صلى في ثوب واحد، فقال الشافعي وأصحابنا: أفضل ذلك القميص، ثم الرداء، ثم الإزار، ثم السراويل.

                                ومن أصحاب الشافعي من قال: السراويل أولى من الإزار ; لأنه أستر، وهذا مقتضى كلام النخعي كما سبق.

                                واستدل من رجح الإزار: بأنه يتجافى عنه ولا يصف الأعضاء بخلاف السراويل.

                                وسئل الإمام أحمد : السراويل أحب إليك أم الميازر؟ فقال: السراويل محدث ولكنه أستر. وقال - أيضا -: الأزر كانت لباس القوم، والسراويل أستر.

                                قال: والحديث: " من لم يجد الإزار فليلبس السراويل " وهذا دليل أن [ ص: 176 ] القوم قد لبسوا السراويلات.

                                وقد سبق حديث سلمة بن الأكوع في الصلاة في القميص، وأنه يزره ولو بشوكة.

                                وفي " سنن أبي داود " عن جابر ، أنه أم في قميص ليس عليه رداء، فلما انصرف قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في قميص.

                                وروى أبو نعيم الفضل بن دكين : ثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى : ثنا شيخ، قال: أمنا الحسن أو الحسين بن علي رضي الله عنهم في قميص خفيف، ليس عليه إزار ولا رداء، فلما صلى قال: هذه السنة - أو من السنة - وإنما فعلته لتنظروا أن عندنا الثياب.

                                وإذا صلى في قميص فإنه ينبغي أن يزره، وقد تقدم قول من كره الصلاة في قميص غير مزرور استدلالا بحديث سلمة بن الأكوع ، فإن لم يزر القميص فإن كان تحته إزار أو سراويل صحت صلاته لاستتار عورته.

                                وقد روي، عن نافع ، أن ابن عمر كان لا يصلي إلا وهو متزر، وربما اتزر تحت قميصه وفوقه في السفر.

                                وإن لم يكن عليه إزار ولا سراويل، فإن كان له لحية كبيرة تستر جيبه بحيث لا يرى منه عورته صحت صلاته -: نص عليه أحمد في رواية الأثرم ، وهو قول داود الطائي ، وأصح الوجهين للشافعية.

                                وإن لم يكن كذلك، بل كان يرى عورة نفسه من جيبه لم تصح صلاته، عند الشافعي وأحمد ، وتصح عند مالك وأبي حنيفة وأبي ثور كما لو رئيت عورته من أسفل ذيله.

                                وقد رخص في الصلاة في قميص غير مزرر: سالم بن عبد الله بن عمر وغيره من السلف.

                                [ ص: 177 ] وقال مالك : هو أستر من الذي يصلي متوشحا بثوب.

                                وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد عمن صلى ولم يزر عليه، ولم يحتزم؟ فقال: جائز، فقلت له: إنه لو نظر إلى فرجه رآه، فقال: لا يمكن أن يرى ذاك.

                                وقال أبو أيوب - يعني: سليمان بن داود الهاشمي -: يزر عليه، فإن لم يفعل وكان إذا ركع لا يستتر فرجه عن النظر أعاد الصلاة.

                                وقال أبو خيثمة : نأمره أن يزر عليه، ولا أرى عليه إعادة ; لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال للنساء: " لا ترفعن رءوسكن قبل الرجال " من ضيق الأزر، وحديث عمرو بن سلمة : " غطوا عنا است قارئكم .

                                قال الجوزجاني : والقول في ذلك على ما قال أبو خيثمة لما احتج به، ثم قال: ثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود : ثنا زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي سعيد ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا معشر النساء، إذا سجد الرجال فاخفضن أبصاركن، لا ترين عورات الرجال " من ضيق الأزر.

                                وروى الطبراني بإسناد ضعيف، عن ابن عباس ، قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي محتبيا، محلل الأزرار .




                                الخدمات العلمية