الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب النفي والاعتراف في الزنا

( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما أخبراه { أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله عز وجل وقال الآخر - وهو أفقههما - أجل يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله عز وجل وأذن لي في أن أتكلم قال تكلم قال قال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وجارية لي . ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وإنما الرجم على امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل أما غنمك وجاريتك فرد عليك وجلد ابنه مائة وغربه عاما وأمر أنيسا الأسلمي أن يغدو على امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها } ( قال الشافعي ) وبهذا قلنا وفيه الحجة في أن يرجم من اعترف مرة إذا ثبت عليها . وقد روى ابن عيينة بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وروى عبادة بن الصامت الجلد والنفي عن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال الشافعي ) فخالف بعض الناس هذا الحديث فيما وصفت لك فقال : لا يرجم باعتراف مرة ولا يرجم حتى يعترف أربعا . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنيسا إن اعترفت أن يرجمها وأمر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا واقد الليثي وخالفه أيضا فقال : إذا اعترف الزاني فالحق على الإمام أن يبدأ فيرجم ثم الناس وإذا قامت البينة رجمهم الشهود ثم الإمام ثم الناس ( قال الشافعي ) أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز ولم يحضره وأمر أنيسا بأن يأتي امرأة فإن اعترفت رجمها ولم يقل أعلمني لأحضرها ولم أعلمه أمر برجمهم فحضره ولو كان حضور الإمام حقا حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا واقد الليثي يأتي امرأة فإن اعترفت رجمها . ولم يقل : أعلمني أحضرها وما علمت إماما حضر رجم مرجوم ولقد أمر عثمان بن عفان رضي الله عنه برجم امرأة وما حضرها ( قال الشافعي ) ويرجم الزاني الثيب ولا يجلد والجلد منسوخ عن الثيب قال الله تبارك وتعالى { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } إلى { سبيلا } وهذا قبل نزول الحدود . ثم روى الحسن عن حطان الرقاشي عن [ ص: 145 ] عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم . أنه قال { خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب جلد مائة والرجم } فهذا أول ما نزل الجلد ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر الرجم في كتاب الله عز وجل حق على من زنى إذا كان قد أحصن ولم يذكر جلدا ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا ولم يجلده وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنيسا أن يأتي امرأة فإن اعترفت رجمها وكل هذا يدلك على أن الجلد منسوخ عن الثيب ، وكل الأئمة عندنا رجم بلا جلد ، فإن قال قائل : لا أنفي أحدا فقيل لبعض من يقول قوله : ولم رددت النفي في الزنا وهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود والناس عندنا إلى اليوم ؟ قال رددته ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تسافر المرأة سفرا يكون ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم } فقلت له سفر المرأة شيء حيطت به المرأة فيما لا يلزمها من الأسفار . وقد نهيت أن تخلو في المصر برجل وأمرت بالقرار في بيتها . وقيل لها صلاتك في بيتك أفضل لئلا تعرضي أن تفتتني ولا يفتتن بك أحد وليس هذا مما يلزمها بسبيل . أرأيت لو قال قائل يستخف بخلاف السنة لا أجلدها يمجن ما الحجة عليه إلا ترك الحجة بالكتاب والخبر . أو رأيت إذا اعتللت في النفي بأن { النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسافر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم } ما هو من حد الزنا قال : إنهما يجتمعان في معنى أن في النفي سفرا قلنا : وإذا اجتمع الحديثان من الصنفين المختلفين في معنى من المعاني أزلت أحدهما بالآخر ؟ قال : نعم قلنا : إذا كان النفي من أثبت ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده والناس إلى اليوم عندنا أن نقول كما قلت : لما اجتمعا في أن فيه سفرا أبحنا للمرأة أن تسافر ثلاثا أو أكثر مع غير ذي محرم ، قال : لا قلنا فلم كان لك أن تزيل أحدهما بالآخر ولا يكون ذلك لنا عليك ؟ وقلت أرأيت إذا اعتللت بأنك تركت النفي ; لأن فيه سفرا مع غير ذي محرم إن زنت بكر ببغداد فجلدتها فجاء أبوها وإخوتها وعدد كثير كلهم محرم لها فقالوا قد فسدت ببغداد وأهلها بالمدائن وأنت تبيح السفر مع ذي محرم إلى ما يبعد وتبيحه أقل من ثلاث مع غير ذي محرم . وقد اجتمع لك الأمران فنحن ذوو محرم فتنفيها عن بغداد فتخرج مع ذي محرم إلى شهر قد تبيحه لها مع غير ذي محرم إلى أهلها وتنحيها عن بلد قد فسدت به ولا تزال بذلك منعما علينا قال لا أنفيها ; لأنها مالكة لنفسها فلا أنفيها قلنا : فقد زال المعنيان اللذان اعتللت بهما فلو كنت تركت النفي لها من أجلهما نفيتها في هاتين الحالتين وقلنا له : أرأيت إن كانت ببادية لا قاضي عند قريتها إلا على ثلاث ليال أو أكثر فادعى عليها مدع حقا أو أصابت حدا . قال ترفع إلى القاضي قلنا مع غير ذي محرم ؟ قال : نعم قلنا فقد أبحت لها أن تسافر ثلاثا أو أكثر مع غير ذي محرم . قال هذا يلزمها قلنا : فهذا يلزمها برأيك فأبحته لها ومنعتها منه فما سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر به عن الله جل وعلا فيها ( قال الشافعي ) وقلنا أرأيت إذا اعتللت في المرأة بما اعتللت به أيحتاج الرجل إلى ذي محرم ؟ قال : لا قلنا : فلم لم تنفه ؟ قال إنه حد واحد فإذا زال عن أحدهما زال عن الآخر قلنا وهذا أيضا من شبهكم التي تعتلون بها وأنتم تعلمون أنكم مخطئون فيها أو تعنون موضع الخطأ . قال وكيف ؟ قلنا ما نقول في ثيب حر زنى ببكر وثيب حر زنى بأمة وثيب حر زنى بمستكرهة ؟ قال على الثيب في هذا كله الرجم [ ص: 146 ] وعلى البكر مائة وعلى الأمة خمسون وليس على المستكرهة شيء قلنا : وكذلك إن كانت المرأة ثيبا ، ومن زنى بها عبدا رجمت وجلد العبد خمسين ؟ قال : نعم . قلنا ولم ؟ أليس ; لأنك تلزم كل واحد منهما حد نفسه ولا تزيله عنه بأن يشركه فيه غيره ؟ قال : نعم قلت : فلم لا يكون الرجل إذا كان لا يحتاج إلى محرم منفيا والنفي حده قال فقد نفى عمر رجلا وقال لا أنفي بعده . قلت نفى عمر رجلا في الخمر والنفي في السنة على الزاني والمخنث وفي الكتاب على المحارب وهو خلاف نفيهما لا على أحد غيرهم فإن رأى عمر نفيا في الخمر ثم رأى أن يدعه فليس الخمر بالزنا وقد نفى عمر في الزنا فلم لم تحتج بنفي عمر في الزنا ؟ وقد تبينا نحن وأنت أن ليس في أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة ؟ ( قال الشافعي ) وقال قائل لا أرجم إلا بالاعتراف أربع مرات ; لأنهن يقمن مقام أربع شهادات قلنا وإن كن يقمن مقام أربع شهادات فإن اعترف أربع مرات ثم رجع ؟ قال لا يحد قيل فهذا يدلك على فرق بين الاعتراف والشهادة أو رأيت إن قلت يقوم مقام الشهادة فلم زعمت أن السارق يعترف مرة فيقطع وكيف لا تقول حتى يعترف مرتين إن اعترف بحق لرجل مرة ألزمته أبدا فجعلت مرة الاعتراف أقوى من البينة . ومرة أضعف ؟ قال : ليس الاعتراف من البينة بسبيل ولكن الزهري روى أنه اعترف عند النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات قلنا : وقد روى ابن المسيب أنه اعترف مرارا فردده ولم يذكر عددها وإنما كان ذلك في أول الإسلام لجهالة الناس بما عليهم ، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في المعترف أيشتكي أم به جنة لا يرى أن أحدا ستر الله عز وجل عليه أتى يقر بذنبه إلا وهو يجهل حده ؟ أو لا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها } ولم يذكر عدد الاعتراف وأمر عمر رضي الله تعالى عنه أبا واقد الليثي بمثل ذلك ولم يأمره بعدد اعتراف .

التالي السابق


الخدمات العلمية