الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر أخبار الأسود العنسي باليمن

واسمه عيهلة بن كعب بن عوف العنسي ، بالنون ، وعنس بطن من مذحج ، وكان يلقب ذا الخمار ؛ لأنه كان معتما متخمرا أبدا .

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جمع لباذان حين أسلم وأسلم أهل اليمن - عمل اليمن جميعه ، وأمره على جميع مخالفيه ، فلم يزل عاملا عليه حتى مات . فلما مات باذان فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمراءه في اليمن ، فاستعمل عمرو بن حزم على نجران ، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران وزبيد ، وعامر بن شهر على همدان ، وعلى صنعاء شهر بن باذان ، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة ، وعلى مأرب أبا موسى ، وعلى الجند يعلى بن أمية ، وكان معاذ معلما يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت .

[ ص: 197 ] واستعمل على أعمال حضرموت زياد بن لبيد الأنصاري ، وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور ، وعلى بني معاوية ابن كندة عبد الله أو المهاجر ، فاشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يذهب حتى وجهه أبو بكر ، فمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهؤلاء عماله على اليمن وحضرموت .

وكان أول من اعترض الأسود الكاذب - شهر ، وفيروز ، وداذويه ، وكان الأسود العنسي لما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجة الوداع ، وتمرض من السفر غير مرض موته بلغه ذلك ، فادعى النبوة ، وكان مشعبذا يريهم الأعاجيب ، فاتبعته مذحج ، وكانت ردة الأسود أول ردة في الإسلام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغزا نجران ، فأخرج عنها عمرو بن حزم وخالد بن سعيد ، ووثب قيس بن عبد يغوث بن مكشوح على فروة بن مسيك ، وهو على مراد ، فأجلاه ونزل منزله ، وسار الأسود عن نجران إلى صنعاء ، وخرج إليه شهر بن باذان فلقيه ، فقتل شهر لخمس وعشرين ليلة من خروج الأسود ، وخرج معاذ هاربا حتى لحق بأبي موسى وهو بمأرب ، فلحقا بحضرموت ، ولحق بفروة من تم على إسلامه من مذحج .

واستتب للأسود ملك اليمن ، ولحق أمراء اليمن إلى الطاهر بن أبي هالة ، إلا عمرا وخالدا ؛ فإنهما رجعا إلى المدينة ، والطاهر بجبال عك وجبال صنعاء ، وغلب الأسود على ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف ، إلى البحرين والأحساء ، إلى عدن ، واستطار أمره كالحريق ، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهرا سوى الركبان ، واستغلظ أمره ، وكان خليفته في مذحج عمرو بن معدي كرب ، وكان خليفته على جنده قيس بن عبد يغوث ، وأمر الأبناء إلى فيروز وداذويه .

وكان الأسود تزوج امرأة شهر بن باذان بعد قتله ، وهي ابنة عم فيروز . وخاف من بحضرموت من المسلمين أن يبعث إليهم جيشا ، أو يظهر بها كذاب مثل الأسود ، فتزوج معاذ إلى السكون ، فعطفوا عليه .

وجاء إليهم وإلى من باليمن من المسلمين كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بقتال الأسود ، فقام معاذ في ذلك ، وقويت نفوس المسلمين ، وكان الذي قدم بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبر [ ص: 198 ] بن يحنس الأزدي ، قال جشنس الديلمي : فجاءتنا كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بقتاله ، إما مصادمة أو غيلة - يعني إليه ، وإلى فيروز وداذويه - وأن نكاتب من عنده دين . فعملنا في ذلك ، فرأينا أمرا كثيفا ، وكان قد تغير لقيس بن عبد يغوث ، فقلنا : إن قيسا يخاف على دمه ، فهو لأول دعوة ، فدعوناه وأبلغناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فكأنما نزلنا عليه من السماء ، فأجابنا ، وكاتبنا الناس . فأخبره الشيطان شيئا من ذلك ، فدعا قيسا فأخبره أن شيطانه يأمره بقتله ؛ لميله إلى عدوه ، فحلف قيس : لأنت أعظم في نفسي من أن أحدث نفسي بذلك . ثم أتانا فقال : يا جشنس ، ويا فيروز ، ويا داذويه ، فأخبرنا بقول الأسود . فبينا نحن معه يحدثنا إذ أرسل إلينا فتهددنا ، فاعتذرنا إليه ونجونا منه ولم نكد ، وهو مرتاب بنا ونحن نحذره . فبينا نحن على ذلك إذ جاءتنا كتب عامر بن شهر ، وذي زود ، وذي مران ، وذي الكلاع ، وذي ظليم ، يبذلون لنا النصر ، فكاتبناهم وأمرناهم أن لا يفعلوا شيئا حتى نبرم أمرنا ، وإنما اهتاجوا لذلك حين كاتبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكتب أيضا إلى أهل نجران فأجابوه ، وبلغ ذلك الأسود ، وأحس بالهلاك .

قال : فدخلت على آزاد ، وهي امرأته التي تزوجها بعد قتل زوجها شهر بن باذان ، فدعوتها إلى ما نحن عليه ، وذكرتها قتل زوجها شهر وإهلاك عشيرتها ، وفضيحة النساء . فأجابت وقالت : والله ما خلق الله شخصا أبغض إلي منه ، ما يقوم لله على حق ، ولا ينتهي عن محرم ، فأعلموني أمركم أخبركم بوجه الأمر . قال : فخرجت وأخبرت فيروز وداذويه وقيسا . قال : وإذ قد جاء رجل فدعا قيسا إلى الأسود ، فدخل في عشرة من مذحج وهمدان ، فلم يقدر على قتله معهم وقال له : ألم أخبرك الحق ، وتخبرني الكذب ؟ إنه - يعني شيطانه - يقول لي : إلا تقطع من قيس يده يقطع رقبتك . فقال قيس : إنه ليس من الحق أن أهلك وأنت رسول الله ، فمرني بما أحببت أو اقتلني ، فموتة أهون من موتات .

فرق له وتركه ، وخرج قيس فمر بنا وقال : اعملوا عملكم . ولم يقعد عندنا .

فخرج علينا الأسود في جمع ، فقمنا له وبالباب مائة ، ما بين بقرة وبعير ، فنحرها ثم خلاها ، ثم قال : أحق ما بلغني عنك يا فيروز ؟ - وبوأ له الحربة - لقد هممت أن أنحرك . فقال : اخترتنا لصهرك وفضلتنا ، فلو لم تكن نبيا لما بعنا نصيبنا منك بشيء ، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الدنيا والآخرة ! فقال له : اقسم هذه ، فقسمها ، ولحق به وهو يسمع سعاية رجل بفيروز ، وهو يقول له : أنا قاتله غدا وأصحابه ، ثم التفت فإذا فيروز ، فأخبره بقسمتها ، ودخل الأسود ورجع فيروز فأخبرنا الخبر ، فأرسلنا إلى قيس فجاءنا ، فاجتمعنا على أن أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا ونأخذ رأيها ، فأتيتها فأخبرتها ، فقالت : هو متحرز ، وليس من القصر شيء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت ، فإن ظهره إلى [ ص: 199 ] مكان كذا وكذا ، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه ، فإنكم من دون الحرس ، وليس دون قتله شيء ، وستجدون فيه سراجا وسلاحا .

فتلقاني الأسود خارجا من بعض منازله فقال : ما أدخلك علي ؟ ووجأ رأسي حتى سقطت ، وكان شديدا ، فصاحت المرأة فأدهشته ، وقالت : جاءني ابن عمي زائرا ففعلت به هذا ؟ فتركني ، فأتيت أصحابي فقلت : النجاء ! الهرب ! وأخبرتهم الخبر .

فإنا على ذلك حيارى إذ جاءنا رسولها يقول : لا تدعن ما فارقتك عليه ، فلم أزل به حتى اطمأن . فقلنا لفيروز : إيتها فتثبت منها . ففعل ، فلما أخبرته قال : ننقب على بيوت مبطنة ، فدخل فاقتلع البطانة ، وجلس عندها كالزائر ، فدخل عليها الأسود فأخذته غيرة ، فأخبرته برضاع وقرابة منها عنده محرم ، فأخرجه . فلما أمسينا عملنا في أمرنا ، وأعلمنا أشياعنا ، وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين فنقبنا البيت ودخلنا ، وفيه سراج تحت جفنة ، واتقينا بفيروز ، كان أشدنا ، فقلنا : انظر ماذا ترى ، فخرج ونحن بينه وبين الحرس ، فلما دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا ، والمرأة قاعدة ، فلما قام على باب البيت أجلسه الشيطان وتكلم على لسانه ، وقال : ما لي ولك يا فيروز ! فخشي إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة ، فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل ، فأخذ برأسه فقتله ودق عنقه ، ووضع ركبته في ظهره فدقه ، ثم قام ليخرج ، فأخذت المرأة بثوبه وهي ترى أنه لم يقتله . فقال : قد قتلته وأرحتك منه ، وخرج فأخبرنا ، فدخلنا معه ، فخار كما يخور الثور ، فقطعت رأسه بالشفرة ، وابتدر الحرس المقصورة يقولون : ما هذا ؟ فقالت المرأة : النبي يوحى إليه فخمدوا ، وقعدنا نأتمر بيننا ، فيروز وداذويه وقيس ، كيف نخبر أشياعنا ، فاجتمعنا على النداء ، فلما طلع الفجر نادينا بشعارنا الذي بيننا وبين أصحابنا ، ففزع المسلمون والكافرون ، ثم نادينا بشعارنا بالأذان فقلت : أشهد أن محمدا رسول الله ، وأن عيهلة كذاب ! وألقينا إليهم رأسه ، وأحاط بنا أصحابه وحرسه ، وشنوا الغارة ، وأخذوا صبيانا كثيرة وانتهبوا . فنادينا أهل صنعاء من عنده منهم فأمسكه ، ففعلوا . فلما خرج أصحابه فقدوا سبعين رجلا ، فراسلونا ، وراسلناهم على أن يتركوا لنا ما في أيديهم ، ونترك ما في أيدينا ، ففعلنا ، ولم يظفروا منا بشيء ، وترددوا فيما بين صنعاء ونجران . وتراجع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أعمالهم ، وكان يصلي بنا معاذ بن جبل ، وكتبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخبره ، وذلك في حياته .

[ ص: 200 ] وأتاه الخبر من ليلته ، وقدمت رسلنا ، وقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابنا أبو بكر . قال ابن عمر : أتى الخبر من السماء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلته التي قتل فيها ، فقال : قتل العنسي ، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين ، قيل : من قتله ؟ قال : قتله فيروز .

قيل : كان أول أمر العنسي إلى آخره ثلاثة أشهر ، وقيل قريب من أربعة أشهر ، وكان قدوم البشير بقتله في آخر ربيع الأول بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان أول بشارة أتت أبا بكر وهو بالمدينة .

قال فيروز : لما قتلنا الأسود عاد أمرنا كما كان ، وأرسلنا إلى معاذ بن جبل فصلى بنا ونحن راجون مؤملون ، لم يبق شيء نكرهه إلا تلك الخيول من أصحاب الأسود ، فأتى موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتقضت الأمور واضطربت الأرض .

( العنسي بالعين والنون )

وفي هذه السنة ماتت فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - لثلاث خلون من رمضان ، وهي ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها ، وقيل : توفيت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أشهر ، وقيل بستة أشهر ، وغسلها علي وأسماء بنت عميس ، وصلى عليها العباس بن عبد المطلب ، ودخل قبرها العباس ، وعلي ، والفضل بن العباس .

وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر الصديق ، وكان أصابه سهم بالطائف وهو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - رماه به أبو محجن ، ثم انتقض عليه فمات في شوال .

وفي هذا العام الذي بويع فيه أبو بكر ملك يزدجرد بلاد فارس .

وفيه ، أعني سنة إحدى عشرة ، اشترى عمر بن الخطاب مولاه أسلم بمكة من ناس من الأشعريين .

التالي السابق


الخدمات العلمية