الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: في بضع سنين متعلق بـ(سيغلبون) أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      والبضع ما بين الثلاث إلى العشرة عن الأصمعي ، وفي المجمل ما بين الواحد إلى التسعة، وقيل: «هو ما فوق الخمس ودون العشر»، وقال المبرد : ما بين العقدين في جميع الأعداد.

                                                                                                                                                                                                                                      روي أن فارس غزوا الروم، فوافوهم بأذرعات وبصرى فغلبوا عليهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، وهم بمكة ، فشق ذلك عليهم، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله تعالى الم غلبت الروم الآيات، فخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم [ ص: 18 ] على إخواننا، فلا تفرحوا، ولا يقرن الله تعالى عينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، فقام إليه أبي بن خلف، فقال: كذبت، فقال له: أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أنت أكذب يا عدو الله، تعالى، تعال أناحبك، عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، فناحبه، ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر، وماده في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أبيا ، فقال: لعلك ندمت؟ قال: لا، تعال أزايدك في الخطر، وأمادك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت، فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبي كفيلا بالخطر، إن غلب، فكفل به ابنه عبد الرحمن، فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل، فأعطاه كفيلا، ومات أبي من جرح جرحه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة.

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء في الروايات أنهم ظهروا عليهم يوم الحديبية.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الترمذي ، وحسنه أنه لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس، فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه الخطر من ورثة أبي، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: تصدق به.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية أبي يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر، عن البراء بن عازب أنه عليه الصلاة والسلام قال: «هذا السحت تصدق به» .

                                                                                                                                                                                                                                      واستشكل بأنه إن كان ذلك قبل تحريم القمار كما أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن قتادة ، والترمذي ، وصححه عن نيار بن مكرم السلمي، وهو الظاهر، لأن السورة مكية، وتحريم الخمر والميسر من آخر القرآن نزولا، فما وجه كونه سحتا؟ وإن كان بعد التحريم، فكيف يؤمر بالتصدق بالحرام الغير المختلط بغيره، وصاحبه معلوم، وفي مثل ذلك يجب رد المال عليه، فإن قيل: إنه مال حربي والحادثة وقعت بمكة ، وهي قبل الفتح دار حرب، والعقود الفاسدة تجوز فيها عند أبي حنيفة، ومحمد عليهما الرحمة لم يظهر قوله سحتا، وكأني بك تمنع صحة هذه الرواية وإذا لم تثبت صحتها يبقى الأمر بالتصدق، وحينئذ يجوز أن يكون لمصلحة رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تصدق بحلال، أما إذا كان ذلك قبل تحريم القمار كما هو المعول عليه فظاهر، وأما إن كان بعد التحريم فلأن أبا حنيفة، ومحمدا قالا بجواز العقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار، واحتجا على صحة ذلك بما وقع من أبي بكر في هذه القصة، وقد تظافرت الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينكر عليه المناحبة، وإنما أنكر عليه التأجيل بثلاث سنين، وأرشده إلى أن يزايدهم، وربما يقال على تقدير الصحة: إن السحت ليس بمعنى الحرام، بل بمعنى ما يكون سببا للعار والنقص في المروءة حتى كأنه يسحتها أي يستأصلها كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «كسب الحجام سحت» فقد قال الراغب: إن هذا لكونه ساحتا للمروءة لا للدين، فكأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن تمول ذلك وإن كان حلالا مخل بمروءة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فأطلق عليه السحت، ولا يأبى ذلك إذنه عليه الصلاة والسلام في المناحبة، لما أنها لا تضر بالمروءة أصلا، وفيها من إظهار اليقين بصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ما فيها، وكان عليه الصلاة والسلام على ثقة من صلاح الصديق رضي الله تعالى عنه، وأنه إذا أمره بالتصدق بما يأخذه ونهاه عن تموله لم يخالفه، وقيل: السحت هنا بمعنى ما لا شيء على من استهلكه، وهو أحد إطلاقاته كما في النهاية، والمراد: هذا الذي لا شيء عليك إذا استهلكته، وتصرفت فيه حسبما تشاء تصدق به، كأنه عليه الصلاة والسلام [ ص: 19 ] بعد أن أخبر الصديق رضي الله تعالى عنه بأنه لا مانع له من التصرف فيه حسبما يريد، أرشده إلى ما هو الأولى والأحرى، فقال: تصدق به، وهو كما ترى، وقيل: إن السحت كما في النهاية يرد في الكلام بمعنى الحرام مرة، وبمعنى المكروه أخرى، ويستدل على ذلك بالقرائن فيجوز أن يكون في الخبر إذا صح فيه بمعنى المكروه، إذ الأمر بالتصدق يمنع أن يكون بمعنى الحرام، فيتعين كونه بمعنى المكروه، وفيه نظر، وأما تفسير السحت بالحرام، والتزام القول بجواز التصدق بالحرام لهذا الخبر فمما لا يلتفت إليه أصلا، فتأمل. وكانت كلتا الغلبتين في سلطنة خسرو برويز، قال في روضة الصفا ما ترجمته: إنه لما مضى من سلطنة خسرو أربع عشرة سنة غدر الروميون بملكهم، وقتلوه مع ابنه بناطوس وهرب ابنه الآخر إلى خسرو فجهز معه ثلاثة رؤساء أولي قدر رفيع مع عسكر عظيم، فدخلوا بلاد الشام وفلسطين وبيت المقدس، وأسروا من فيها من الأساقفة وغيرهم، وأرسلوا إلى خسرو الصليب الذي كان مدفونا عندهم في تابوت من ذهب، وكذلك استولوا على الإسكندرية وبلاد النوبة إلى أن وصلوا إلى نواحي القسطنطينية ، وأكثروا الخراب وجهدوا على إطاعة الروميين لابن قيصر، فلم تحصل، قيل: إن الروميين جعلوا عليهم حاكما شخصا اسمه هرقل وكان سلطانا عادلا يخاف الله تعالى، فلما رأى تخريب فارس قد شاع في بلاد الروم من النهب والقتل، تضرع، وبكى، وسأل الله تعالى تخليص الروميين، فصادف دعاؤه هدف الإجابة، فرأى في ليالي متعددة في منامه أنه قد جيء إليه بخسرو في عنقه سلسلة، وقيل له: عجل بمحاربة برويز لأنه يكون لك الظفر والنصرة، فجمع هرقل عسكره بسبب تلك الرؤيا، وتوجه من قسطنطينية إلى نصيبين، فسمع خسرو فجهز اثني عشر ألفا مع أمير من أمرائه، فقابلهم هرقل فكسرهم، وقتل منهم تسعة آلاف مع رؤسائهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي بعض الروايات: أنهم ربطوا خيولهم بالمدائن، ورأيت في بعض الكتب أن سبب ظهور الروم على فارس أن كسرى بعث إلى أميره شهريار وهو الذي ولاه على محاربة الروم: أن اقتل أخاك فرخان لمقالة قالها، وهو قوله: لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى، فلم يقتله، فبعث إلى فارس: إني قد عزلت شهريار ووليت أخاه فرخان، فاطلع فرخان على حقيقة الحال، فرد الملك إلى أخيه، وكتب شهريار إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى، فغلبت الروم فارس، وجاء الخبر، ففرح المسلمون، وكان ذلك من الآيات البينات الباهرة الشاهدة بصحة النبوة، وكون القرآن من عند الله عز وجل، لما في ذلك من الإخبار عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى العليم الخبير، وقد صح أنه أسلم عند ذلك ناس كثير. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس ، وابن عمر ، وأبو سعيد الخدري، والحسن ، ومعاوية بن قرة «غلبت الروم» على البناء للفاعل، (وسيغلبون) على البناء للمفعول، والمعنى على ما قيل: إن الروم غلبوا على ريف الشام، وسيغلبهم المسلمون، وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزول الآية، ففتحوا بعض بلادهم، وإضافة «غلب» عليه من إضافة المصدر إلى الفاعل، ووفق بين القراءتين بأن الآية نزلت مرتين مرةبمكة على قراءة الجمهور، ومرة يوم بدر كما رواه الترمذي ، وحسنه عن أبي سعيد على هذه القراءة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض الأجلة: الصواب أن يبقى نزولها على ظاهره، ويراد بغلب المسلمين إياهم ما كان في غزوة مؤتة، وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان، وذلك قريب من التاريخ الذي ذكروه لنزول الآية أولا، ولا حاجة إلى تعدد النزول، فإنه يجوز تخالف معنى القراءتين، إذا لم يتناقضا، وكون فريق غالبا ومغلوبا في زمانين غير متدافع، فتأمل، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى على من سبر السير أن هذا مما لا يكاد يتسنى، لأن الروم لم يغلبهم المسلمون في تلك الغزوة، بل انصرفوا عنهم بعد أن أصيبوا بجعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وعباد بن قيس في [ ص: 20 ] آخرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، كالمغلوبين، بل ذكر ابن هشام أنهم لما أتوا المدينة جعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار، فررتم في سبيل الله تعالى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى»

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أن أم سلمة قالت لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومع المسلمين؟ فقالت: والله ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس: يا فرار، فررتم في سبيل الله حتى قعد في بيته، ولم يخرج، وذكر أبياتا لقيس اليعمري يعتذر فيها مما صنع يومئذ، وصنع الناس، وقد تضمنت كما قال بيان أن القوم حاجزوا، وكرهوا الموت، وأن خالد بن الوليد انحاز بمن معه، على أن فيما ذكر أنه الصواب بحثا بعد، فلعل الأول في التوفيق إذا صحت هذه القراءة ما ذكر أولا، فتأمل.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي البحر: كان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى: الم غلبت الروم - إلى- سنين افتتاح المسلمين بيت المقدس معينا زمانه ويومه، وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى، وإن ابن برجان مات قبل الوقت الذي عينه للفتح، وإنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم، وكان أبو جعفر يعتقد في أبي الحكم هذا أنه كان يتطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله تعالى انتهى، واستخراج بعض العارفين كمحيي الدين قدس سره، والعراقي، وغيرهم المغيبات من القرآن العظيم أمر شهير، وهو مبني على قواعد حسابية، وأعمال حرفية لم يرد شيء منها عن سلف الأمة، ولا حجر على فضل الله عز وجل، وكتاب الله تعالى فوق ما يخطر للبشر، وقد سئل علي كرم الله تعالى وجهه: هل أسر إليكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا كتمه عن غيركم فقال: لا، إلا أن يؤتي الله تعالى عبدا فهما في كتابه.

                                                                                                                                                                                                                                      هذا، ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا لفهم أسرار كتابه، بحرمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.

                                                                                                                                                                                                                                      لله الأمر من قبل ومن بعد أي من قبل هذه الحالة، ومن بعدها، وهو حاصل ما قيل، أي من قبل كونهم غالبين، وهو وقت كونهم مغلوبين، ومن بعد كونهم مغلوبين، وهو وقت كونهم غالبين، وتقديم الخبر للتخصيص، والمعنى أن كلا من كونهم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ليس إلا بأمر الله تعالى شأنه، وقضائه عز وجل، وتلك الأيام نداولها بين الناس [آل عمران: 140]، وقرأ أبو السمال، والجحدري عن العقيلي «من قبل ومن بعد» بالكسر والتنوين فيهما، فليس هناك مضاف إليه مقدر أصلا على المشهور، كأنه قيل: لله الأمر قبلا وبعدا، أي في زمان متقدم، وفي زمان متأخر، وحذف بعضهم الموصوف، وذكر السكاكي أن المضاف إليه مقدر في مثل ذلك أيضا، والتنوين عوض عنه، وجوز الفراء الكسر من غير تنوين، وقال الزجاج : إنه خطأ، لأنه إما أن لا يقدر فيه الإضافة، فينون أو يقدر فيبنى على الضم، وأما تقدير لفظه قياسا على قوله: بين ذراعي وجبهة الأسد، فقياس مع الفارق، لذكره فيه بعد، وما نحن فيه ليس كذلك، وقال النحاس للفراء في كتابه: في القرآن أشياء كثيرة الغلط، منها أنه زعم أنه يجوز «من قبل ومن بعد» بالكسر بلا تنوين، وإنما يجوز «من قبل ومن بعد» على أنهما نكرتان أي من متقدم، ومن متأخر، وذهب إلى قول الفراء ابن هشام في بعض كتبه، وحكى الكسائي عن بعض بني أسد: «لله الأمر من قبل ومن بعد» على أن الأول مخفوض منون، والثاني مضموم بلا تنوين.

                                                                                                                                                                                                                                      ويومئذ أي ويوم إذ يغلب الروم فارس يفرح المؤمنون بنصر الله وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له [ ص: 21 ] وغيظ من شمتهم من كفار مكة ، وكون ذلك مما يتفاءل به لغلبة المؤمنين على الكفار، وقيل: نصر الله تعالى صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس، وقيل: نصره عز وجل أنه ولى بعض الظالمين بعضا، وفرق بين كلمتهم حتى تناقضوا وتحاربوا، وقلل كل منهما شوكة الآخر، وعن أبي سعيد الخدري أنه وافق ذلك يوم بدر، وفيه من نصر الله تعالى العزيز للمؤمنين، وفرحهم بذلك ما لا يخفى، والأول أنسب لقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية