الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            هذا هو النوع الثاني مما نهى الله عنه في هذه الآية ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله القتل ، فما السبب في أن الله تعالى بدأ أولا بذكر النهي عن الزنا وثانيا بذكر النهي عن القتل .

                                                                                                                                                                                                                                            وجوابه : أنا بينا أن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود ، والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود . ودخوله في الوجود مقدم على إبطاله وإعدامه بعد وجوده ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى [ ص: 160 ] الزنا أولا ثم ذكر القتل ثانيا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أن الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة ، والحل إنما يثبت بسبب عارضي ، فلما كان الأمر كذلك لا جرم نهى الله عن القتل مطلقا بناء على حكم الأصل ، ثم استثنى عنه الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهو عند حصول الأسباب العرضية فقال : ( إلا بالحق ) فنفتقر ههنا إلى بيان أن الأصل في القتل التحريم ، والذي يدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن القتل ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [ الحج : 78 ] ( ولا يريد بكم العسر ) . و" لا ضرر ولا ضرار " .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قوله عليه السلام : " الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب " .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الآدمي خلق للاشتغال بالعبادة لقوله : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] ولقوله عليه السلام : " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " والاشتغال بالعبادة لا يتم إلا عند عدم القتل .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن القتل إفساد فوجب أن يحرم لقوله تعالى : ( ولا تفسدوا ) [ الأعراف : 56 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : أنه إذا تعارض دليل تحريم القتل ودليل إباحته فقد أجمعوا على أن جانب الحرمة راجح ، ولولا أن مقتضى الأصل هو التحريم وإلا لكان ذلك ترجيحا لا لمرجح وهو محال .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : أنا إذا لم نعرف في الإنسان صفة من الصفات إلا مجرد كونه إنسانا عاقلا حكمنا فيه بتحريم قتله ، وما لم نعرف شيئا زائدا على كونه إنسانا لم نحكم فيه بحل دمه ، ولولا أن أصل الإنسانية يقتضي حرمة القتل وإلا لما كان كذلك ، فثبت بهذه الوجوه أن الأصل في القتل هو التحريم . وأن حله لا يثبت إلا بأسباب عرضية .

                                                                                                                                                                                                                                            وإذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) فقوله : ( ولا تقتلوا ) نهي وتحريم ، وقوله : ( حرم الله ) إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد ، ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال : ( إلا بالحق ) ثم ههنا طريقان :

                                                                                                                                                                                                                                            الطريق الأول : أن مجرد قوله : ( إلا بالحق ) مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو ؟ ثم إنه تعالى قال : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) أي : في استيفاء القصاص من القاتل ، وهذا الكلام يصلح جعله بيانا لذلك المجمل ، وتقريره كأنه تعالى قال : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) وذلك الحق هو أن من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا في استيفاء القصاص . وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط ، فصار تقدير الآية : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا عند القصاص ، وعلى هذا التقدير فتكون الآية نصا صريحا في تحريم القتل إلا بهذا السبب الواحد ، فوجب أن يبقى على الحرمة فيما سوى هذه الصورة الواحدة .

                                                                                                                                                                                                                                            والطريق الثاني : أن نقول : دلت السنة على أن ذلك الحق هو أحد أمور ثلاثة : وهو قوله عليه السلام : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق " .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا الخبر من باب الآحاد . فإن قلنا : إن قوله : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) تفسير لقوله : ( إلا بالحق ) كانت الآية صريحة في أنه لا يحل القتل إلا بهذا السبب الواحد ، فحينئذ يصير هذا الخبر مخصصا لهذه الآية ويصير ذلك فرعا لقولنا : إنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وأما إن قلنا : إن قوله : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) ليس تفسيرا لقوله : ( إلا بالحق ) فحينئذ يصير هذا [ ص: 161 ] الخبر مفسرا للحق المذكور في الآية ، وعلى هذا التقدير لا يصير هذا فرعا على مسألة جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد . فلتكن هذه الدقيقة معلومة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ظاهر هذه الآية أنه لا سبب لحل القتل إلا قتل المظلوم ، وظاهر الخبر يقتضي ضم شيئين آخرين إليه : وهو الكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد الإحصان ، ودلت آية أخرى على حصول سبب رابع وهو قوله تعالى : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ) [ المائدة : 33 ] ودلت آية أخرى على حصول سبب خامس وهو الكفر . قال تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) [ التوبة : 29 ] وقال : ( واقتلوهم حيث وجدتموهم ) [ النساء : 89 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والفقهاء تكلموا واختلفوا في أشياء أخرى فمنها :

                                                                                                                                                                                                                                            أن تارك الصلاة هل يقتل أم لا ؟ فعند الشافعي رحمه الله يقتل ، وعن أبي حنيفة رحمه الله لا يقتل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن فعل اللواط هل يوجب القتل ؟ فعند الشافعي يوجب ، وعند أبي حنيفة لا يوجب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الساحر إذا قال : قتلت بسحري فلانا فعند الشافعي يوجب القتل ، وعند أبي حنيفة لا يوجب .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن القتل بالمثقل هل يوجب القصاص ؟ فعند الشافعي يوجب ، وعند أبي حنيفة لا يوجب .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن الامتناع من أداء الزكاة هل يوجب القتل أم لا ؟ اختلفوا فيه في زمان أبي بكر .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أن إتيان البهيمة هل يوجب القتل ؟ فعند أكثر الفقهاء لا يوجب ، وعند قوم يوجب .

                                                                                                                                                                                                                                            حجة القائلين بأنه لا يجوز القتل في هذه الصور هو أن الآية صريحة في منع القتل على الإطلاق ، إلا لسبب واحد وهو قتل المظلوم ، ففيما عدا هذا السبب الواحد ، وجب البقاء على أصل الحرمة ، ثم قالوا : وهذا النص قد تأكد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدم على الإطلاق ، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارض ، وذلك المعارض إما أن يكون نصا متواترا أو نصا من باب الآحاد أو يكون قياسا ، أما النص المتواتر فمفقود ، وإلا لما بقي الخلاف ، وأما النص من باب الآحاد فهو مرجوح بالنسبة إلى هذه النصوص المتواترة الكثيرة ، وأما القياس فلا يعارض النص . فثبت بمقتضى هذا الأصل القوي القاهر أن الأصل في الدماء الحرمة إلا في الصور المعدودة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية