الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة

                                                                                                                1187 وحدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها قال ما هن يا ابن جريج قال رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ورأيتك تلبس النعال السبتية ورأيتك تصبغ بالصفرة ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهلل أنت حتى يكون يوم التروية فقال عبد الله بن عمر أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلتهحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب حدثني أبو صخر عن ابن قسيط عن عبيد بن جريج قال حججت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بين حج وعمرة ثنتي عشرة مرة فقلت يا أبا عبد الرحمن لقد رأيت منك أربع خصال وساق الحديث بهذا المعنى إلا في قصة الإهلال فإنه خالف رواية المقبري فذكره بمعنى سوى ذكره إياه

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                باب بيان أن الأفضل أن يحرم حين تنبعث به راحلته

                                                                                                                متوجها إلى مكة لا عقب الركعتين

                                                                                                                قوله في هذا الباب عن ابن عمر قال : ( فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته ) ، وقال في الحديث السابق : ( ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل ) ، وفي الحديث الذي قبله ( كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل ) ، وفي رواية : ( حين قام به بعيره ) ، وفي رواية : ( يهل حتى تستوي به راحلته قائمة ) .

                                                                                                                هذه الروايات كلها متفقة في المعنى ، وانبعاثها هو استواؤها قائمة ، وفيها دليل لمالك والشافعي والجمهور أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته ، وقال أبو حنيفة : يحرم عقب الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته ، وقبل قيامه ، وهو قول ضعيف للشافعي ، وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف ، وفيه : أن التلبية لا تقدم على الإحرام .

                                                                                                                [ ص: 269 ] قوله عن عبيد بن جريج أنه قال لابن عمر : ( رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها ) إلى آخره ، قال المازري : يحتمل أن مراده لا يصنعها غيرك مجتمعة ، وإن كان يصنع بعضها .

                                                                                                                قوله : ( رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ) ثم ذكر ابن عمر في جوابه : أنه لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين ، هما بتخفيف الياء ، هذه اللغة الفصيحة المشهورة ، وحكى سيبويه وغيره من الأئمة تشديدها في لغة قليلة ، والصحيح التخفيف ، قالوا : لأن نسبه إلى اليمن ، فحقه أن يقال اليمني ، وهو جائز ، فلما قالوا ( اليماني ) أبدلوا من إحدى ياءي النسب ألفا ، فلو قالوا اليماني بالتشديد لزم منه الجمع بين البدل والمبدل ، والذين شددوها قالوا : هذه الألف زائدة ، وقد تزاد في النسب كما قالوا في النسب إلى صنعاء : صنعاني ، فزادوا النون الثانية وإلى الري : رازي ، فزادوا الزاي ، وإلى الرقبة : رقباني ، فزادوا النون .

                                                                                                                والمراد بالركنين اليمانيين : الركن اليماني ، والركن الذي فيه الحجر الأسود ، ويقال له : العراقي ؛ لكونه إلى جهة العراق ؛ وقيل للذي قبله اليماني ؛ لأنه إلى جهة اليمن ، ويقال لهما : اليمانيان تغليبا لأحد الاسمين ، كما قالوا : الأبوان للأب والأم ، والقمران للشمس والقمر ، والعمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ونظائره مشهورة ، فتارة يغلبون بالفضيلة كالأبوين ، وتارة بالخفة كالعمرين ، وتارة بغير ذلك ، وقد بسطته في تهذيب الأسماء واللغات .

                                                                                                                قال العلماء : ويقال للركنين الآخرين اللذين يليان الحجر بكسر الحاء : الشاميان ؛ لكونهما بجهة الشام ، قالوا : فاليمانيان باقيان على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، بخلاف الشاميين ، فلهذا لم يستلما واستلم اليمانيان لبقائهما على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، ثم إن العراقي من اليمانيين اختص بفضيلة أخرى ، وهي الحجر الأسود ، فاختص لذلك مع الاستلام بتقبيله ، ووضع الجبهة عليه بخلاف اليماني . والله أعلم .

                                                                                                                قال القاضي : وقد اتفق أئمة الأمصار والفقهاء اليوم على أن الركنين الشاميين لا يستلمان ، وإنما كان الخلاف في ذلك العصر الأول من بعض الصحابة وبعض التابعين ، ثم ذهب .

                                                                                                                وقوله : ( ورأيتك تلبس النعال السبتية ) ، وقال ابن عمر في جوابه : ( وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ، ويتوضأ فيها وأنا أحب أن ألبسها ) فقوله : ( ألبس وتلبس ) كله بفتح الباء ، وأما ( السبتية ) فبكسر السين وإسكان الباء الموحدة ، وقد أشار ابن عمر إلى تفسيرها بقوله : ( التي ليس فيها شعر ) ، وهكذا قال جماهير أهل اللغة وأهل الغريب وأهل الحديث : إنها التي لا شعر فيها ، قالوا : وهي مشتقة من ( السبت ) بفتح السين وهو الحلق والإزالة ، ومنه قولهم : سبت رأسه أي [ ص: 270 ] حلقه ، قال الهروي : وقيل : سميت بذلك ؛ لأنها انسبتت بالدباغ أي لانت ، يقال : رطبة منسبتة أي لينة .

                                                                                                                قال أبو عمرو الشيباني : السبت : كل جلد مدبوغ ، وقال أبو زيد : السبت : جلود البقر مدبوغة كانت ، أو غير مدبوغة ، وقيل : هو نوع من الدباغ يقلع الشعر ، وقال ابن وهب : النعال السبتية كانت سودا لا شعر فيها .

                                                                                                                قال القاضي : وهذا ظاهر كلام ابن عمر في قوله : ( النعال التي ليس فيها شعر ) ، وقال : هذا لا يخالف ما سبق ، فقد تكون سودا مدبوغة بالقرظ لا شعر فيها ؛ لأن بعض المدبوغات يبقى شعرها ، وبعضها لا يبقى . قال : وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها غير مدبوغة ، وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره ، وإنما كان يلبسها أهل الرفاهية ، كما قال شاعرهم :


                                                                                                                تحذي نعال السبت ليس بتوءم



                                                                                                                قال القاضي : والسين في جميع هذا مكسورة ، قال : والأصح عندي أن يكون اشتقاقها وإضافتها إلى السبت الذي هو الجلد المدبوغ أو إلى الدباغة ؛ لأن السين مكسورة في نسبتها ، ولو كانت من ( السبت ) الذي هو الحلق كما قاله الأزهري وغيره ، لكانت النسبة ( سبتية ) بفتح السين ، ولم يروها أحد في هذا الحديث ولا في غيره ولا في الشعر فيما علمت إلا بالكسر ، هذا كلام القاضي .

                                                                                                                و قوله : ( ويتوضأ فيها ) معناه : يتوضأ ويلبسها ورجلاه رطبتان .

                                                                                                                قوله : ( ورأيتك تصبغ بالصفرة ) وقال ابن عمر في جوابه : ( وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها ) فقوله : ( يصبغ وأصبغ ) بضم الباء وفتحها لغتان مشهورتان ، حكاهما الجوهري وغيره ، قال الإمام المازري : قيل : المراد في هذا الحديث صبغ الشعر ، وقيل : صبغ الثوب ؛ قال : والأشبه أن يكون صبغ الثياب ؛ لأنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم صبغ ، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صبغ شعره ، قال القاضي عياض : هذا أظهر الوجهين ، وإلا فقد جاءت آثار عن ابن عمر بين فيها تصفير ابن عمر لحيته ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصفر لحيته بالورس والزعفران ، رواه أبو داود وذكر أيضا في حديث آخر احتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته .

                                                                                                                قوله : ( ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية ) ، وقال ابن عمر في جوابه : ( وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته ) أما ( يوم التروية ) فبالتاء المثناة فوق ، وهو الثامن من ذي الحجة ، سمي بذلك لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء أي يحملونه معهم من مكة إلى عرفات ليستعملوه في الشرب وغيره .

                                                                                                                وأما فقه المسألة فقال المازري : أجابه ابن عمر بضرب من القياس ، حيث لم يتمكن من الاستدلال بنفس فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسألة بعينها ، فاستدل بما في معناه ، ووجه قياسه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرم عند الشروع في أفعال الحج والذهاب [ ص: 271 ] إليه ، فأخر ابن عمر الإحرام إلى حال شروعه في الحج وتوجهه إليه ، وهو يوم التروية ، فإنهم حينئذ يخرجون من مكة إلى منى ، ووافق ابن عمر على هذا الشافعي وأصحابه ، وبعض أصحاب مالك وغيرهم ، وقال آخرون : الأفضل أن يحرم من أول ذي الحجة ، ونقله القاضي عن أكثر الصحابة والعلماء ، والخلاف في الاستحباب ، وكل منهما جائز بالإجماع . والله أعلم .

                                                                                                                قوله ( ابن قسيط ) هو يزيد بن عبد الله بن قسيط ، بقاف مضمومة وسين مهملة مفتوحة وإسكان الياء .




                                                                                                                الخدمات العلمية