الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (71) قوله تعالى : لم تلبسون : قرأ العامة بكسر الباء من لبس عليه يلبسه أي خلطه . وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها جعله من لبست الثوب ألبسه على جهة المجاز ، وقرأ أبو مجلز : "تلبسون " بضم التاء وكسر الباء وتشديدها من لبس بالتشديد ومعناه التكثير . والباء في "بالباطل " للحال أي : ملتبسا بالباطل .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 245 ] قوله : وتكتمون الحق جملة مستأنفة ، ولذلك لم ينتصب بإضمار أن في جواب الاستفهام ، وقد أجاز الزجاج من البصريين ، والفراء من الكوفيين فيه النصب من حيث العربية ، فتسقط النون ، فينتصب على الصرف عند الكوفيين ، وبإضمار أن عند البصريين ، وقد منع ذلك أبو علي الفارسي وأنكره ، وقال : "الاستفهام واقع على اللبس فحسب ، وأما " تكتمون "فخبر حتم لا يجوز فيه إلا الرفع " ، يعني أنه ليس معطوفا على "تلبسون " بل هو استئناف ، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق . ونقل أبو محمد بن عطية عن أبي علي أنه قال أيضا : "الصرف ها هنا يقبح ، وكذلك إضمار " أن " ، لأن " يكتمون "معطوف على موجب مقدر وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : " لا تأكل السمك وتشرب اللبن "وبمنزلة قولك : " أتقوم فأقوم "والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب ، إلا في ضرورة شعر كما روي :


                                                                                                                                                                                                                                      1328 - ... ... ... ... وألحق بالحجاز فاستريحا



                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال سيبويه في قولك : " أسرت حتى تدخلها ؟ "لا يجوز إلا النصب في " تدخل "لأن السير مستفهم عنه غير موجب " ، وإذا قلنا : "أيهم سار حتى يدخلها ؟ رفعت لأن السير موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 246 ] قال الشيخ : وظاهر هذا النقل عنه معارضته لما نقل عنه قبله ، لأن ما قبله فيه أن الاستفهام وقع عن اللبس فحسب ، وأما "يكتمون " فخبر حتم لا يجوز فيه إلا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أن "يكتمون " معطوف على موجب مقدر وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون "يكتمون " إخبارا محضا لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار "أن " في جوابه تبعه في ذلك جمال الدين بن مالك ، فقال في "تسهيله " : "أو لاستفهام لا يتضمن وقوع الفعل " فإن تضمن وقوع الفعل امتنع النصب عنده نحو : "لم ضربت زيدا فيجاريك " لأن الضرب قد وقع . ولم يشترط غيرهما من النحويين ذلك ، بل إذا تعذر سبك المصدر مما قبله : إما لعدم تقدم فعل ، وإما لاستحالة سبك المصدر المراد به الاستقبال لأجل مضي الفعل فإنما يقدر مصدر مقدر استقباله بما يدل عليه المعنى ، فإذا قلت : لم ضربت زيدا [فأضربك] فالتقدير : ليكن منك إعلام بضرب زيد فمجازاة منا . وأما ما رد به أبو علي الفارسي على الزجاج والفراء فليس بلازم ، لأنه قد منع أن يراد بالفعل المضي ، إذ ليس نصا في ذلك ، إذ قد يمكن الاستقبال لتحقق صدوره لا سيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك ، وعلى تقدير تحقق المضي فلا يلزم الزجاج أيضا ، لأنه كما تقدم : إذا لم يمكن [ ص: 247 ] سبك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها ، ويدل على إلغاء هذا الشرط والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابن كيسان من نصب المضارع بعد فعل ماض محقق الوقوع مستفهم عنه نحو : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ ومن أبوك فنكرمه ؟ وكم مالك فنعرفه ؟ كل ذلك متأول بما ذكرت من انسباك المصدر المستقبل من لازم الجمل المتقدمة فإن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا ، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام له منا ، وليكن منك تعريف بقدر مالك فمعرفة منا "وهذا البحث الطويل على تقدير شيء لم يقع ، فإنه لم يقرأ لا في الشاذ ولا في غيره إلا ثابت النون ، ولكن للعلماء غرض في تطويل البحث تنقيحا للذهن .

                                                                                                                                                                                                                                      ووراء هذا قراءة مشكلة رووها عن عبيد بن عمير وهي " لم تلبسوا وتكتموا "بحذف النون من الفعلين ، وهي قراءة لا تبعد عن الغلط البحت ، كأنه توهم أن " لم "هي " لم "الجازمة فجزم بها وقد نقل المفسرون عن بعض النحاة هنا أنهم يجزمون بـ " لم "حملا على لم ، نقل ذلك السجاوندي وغيره عنهم ، ولا أظن نحويا يقول ذلك البتة ، كيف يقول في جار ومجرور إنه يجزم!! هذا ما لا يتفوه به البتة ولا يطيق سماعه ، فإن يثبت هذا قراءة ولا بد فليكن مما حذف فيه نون الرفع تخفيفا حيث لا مقتضى لحذفها ، ومن ذلك قراءة بعضهم : قالوا ساحران تظاهرا بتشديد الظاء ، والأصل : تتظاهران ، فأدغم التاء في الظاء وحذف النون تخفيفا ، وفي الحديث : " والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا "يريد عليه السلام : [ ص: 248 ] لا تدخلون ولا تؤمنون ، لاستحالة النهي معنى ، وقال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1329 - أبيت أسري وتبيتي تدلكي     وجهك بالعنبر والمسك الذكي



                                                                                                                                                                                                                                      يريد : تبيتين وتدلكين ، ومثله قول أبي طالب :


                                                                                                                                                                                                                                      1330 - فإن يك قوم سرهم ما صنعتم     ستحتلبوها لاقحا غير باهل



                                                                                                                                                                                                                                      يريد : فستحتلبونها ، ولا يجوز أن يتوهم في هذا البيت أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط ، لأن الفاء مرادة وجوبا ، لعدم صلاحية " ستحتلبوها "جوابا لاقترانه بحرف التنفيس .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأنتم تعلمون جملة حالية ، ومتعلق العلم محذوف : إما اقتصارا وإما اختصارا ، أي : وأنتم تعلمون الحق من الباطل أو نبوة محمد ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية