الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى .

عطف على " فاكتبوه " وهو غيره وليس بيانا له إذ لو كان بيانا لما اقترن بالواو ، فالمأمور به المتداينون شيئان : الكتابة والإشهاد عليها ، والمقصود من الكتابة ضبط صيغة التعاقد وشروطه ، وتذكر ذلك خشية النسيان ، ومن أجل ذلك سماها الفقهاء ذكر الحق ، وتسمى عقدا . قال الحارث بن حلزة :


حذر الجور والتطاخي وهل ين قض ما في المهارق الأهواء

قال تعالى : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فلم يجعل بين فقدان الكاتب وبين الرهن درجة وهي الشهادة بلا كتابة ، لأن قوله : ولم تجدوا كاتبا صار في معنى : ولم تجدوا شهادة ، ولأجل هذا يجوز أن يكون الكاتب أحد الشاهدين ، وإنما جعل القرآن كاتبا وشاهدين لندرة الجمع بين معرفة الكتابة وأهلية الشهادة .

" واستشهدوا " بمعنى أشهدوا ، فالسين والتاء فيه لمجرد التأكيد ، ولك أن تجعلهما للطلب أي اطلبوا شهادة شاهدين ، فيكون تكليفا بالسعي للإشهاد وهو التكليف المتعلق بصاحب الحق ، ويكون قوله ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا تكليفا لمن يطلب منه صاحب الحق أن يشهد عليهما ألا يمتنع .

[ ص: 106 ] والشهادة حقيقتها الحضور والمشاهدة والمراد بها هنا حضور خاص ، وهو حضور لأجل الاطلاع على التداين ، وهذا إطلاق معروف للشهادة على حضور لمشاهدة تعاقد بين متعاقدين أو لسماع عقد من عاقد واحد مثل الطلاق والحبس ، وتطلق الشهادة أيضا على الخبر الذي يخبر به صاحبه عن أمر حصل لقصد الاحتجاج به لمن يزعمه ، والاحتجاج به على من ينكره ، وهذا هو الوارد في قوله : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء .

وجعل المأمور به طلب الإشهاد لأنه الذي في قدرة المكلف ، وقد فهم السامع أن الغرض من طلب الإشهاد حصوله ، ولهذا أمر المستشهد - بفتح الهاء - بعد ذلك بالامتثال فقال : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا .

والأمر في قوله : واستشهدوا شهيدين من رجالكم قيل : للوجوب ، وهو قول جمهور السلف ، وقيل : للندب ، وهو قول جمهور الفقهاء المتأخرين : مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسيأتي عند قوله تعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم .

وقوله من رجالكم أي من رجال المسلمين ، فحصل به شرطان : أنهم رجال ، وأنهم ممن يشملهم الضمير .

وضمير جماعة المخاطبين مراد به المسلمون لقوله في طالعة هذه الأحكام يا أيها الذين آمنوا .

وأما الصبي فلم يعتبره الشرع لضعف عقله عن الإحاطة بمواقع الاستشهاد ومداخل التهم .

والرجل في أصل اللغة يفيد وصف الذكورة فخرجت الإناث ، ويفيد البلوغ فخرج الصبيان ، والضمير المضاف إليه أفاد وصف الإسلام ، فأما الأنثى فيذكر حكمها بعد هذا ، وأما الكافر فلأن اختلاف الدين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب فلا تمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين ، كيف وقد اشترط في تزكية المسلمين شدة المخالطة ، ولأنه قد عرف من غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين بحقوق مخالفه ، وذلك من تخليط الحقوق والجهل بواجبات الدين الإسلامي ، فإن الأديان السالفة لم تتعرض لاحترام حقوق المخالفين ، فتوهم أتباعهم دحضها ، وقد حكى الله [ ص: 107 ] عنهم أنهم قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل ، وهذه نصوص التوراة في مواضع كثيرة تنهى عن أشياء أو تأمر بأشياء وتخصها ببني إسرائيل ، وتسوغ مخالفة ذلك مع الغريب ، ولم نر في دين من الأديان التصريح بالتسوية في الحقوق سوى دين الإسلام ، فكيف نعتد بشهادة هؤلاء الذين يرون المسلمين مارقين عن دين الحق مناوئين لهم ، ويرمون بذلك نبيئهم فمن دونه ، فماذا يرجى من هؤلاء أن يقولوا الحق لهم أو عليهم ، والنصرانية تابعة لأحكام التوراة ، على أن تجافي أهل الأديان أمر كان كالجبلي فهذا الإسلام مع أمره المسلمين بالعدل مع أهل الذمة لا نرى منهم امتثالا فيما يأمرهم به في شأنهم .

وفي القرآن إيماء إلى هذه العلة ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل وفي البخاري ، في حديث أبي قلابة في مجلس عمر بن عبد العزيز ، وما روي عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري ، أن نفرا من قومه ذهبوا إلى خيبر فتفرقوا بها ، فوجدوا أحدهم قتيلا ، فقالوا للذين وجد فيهم القتيل : أنتم قتلتم صاحبنا ، قالوا : ما قتلنا ، فانطلقوا إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - فشكوا إليه فقال لهم : تأتون بالبينة على من قتله . قالوا : ما لنا بينة . قال : فتحلف لكم يهود خمسين يمينا . قالوا : ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون . فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل دمه ووداه من مال الصدقة . فقد أقر النبيء - صلى الله عليه وسلم - قول الأنصار في اليهود ، إنهم ما يبالون أن يقتلوا كل القوم ثم يحلفون .

فإن قلت : كيف اعتدت الشريعة بيمين المدعى عليه من الكفار ، قلت : اعتدت بها لأنها أقصى ما يمكن في دفع الدعوى ، فرأتها الشريعة خيرا من إهمال الدعوى من أصلها .

ولأجل هذا اتفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة أهل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر ، واختلفوا في الإشهاد على الوصية في السفر ، فقال ابن عباس ومجاهد وأبو موسى الأشعري وشريح بقبول شهادة غير المسلمين في الوصية في السفر ، وقضى به أبو موسى الأشعري مدة قضائه في الكوفة ، وهو قول أحمد وسفيان الثوري وجماعة من العلماء ، وقال الجمهور : لا تجوز شهادة غير المسلمين ورأوا أن ما في آية الوصية منسوخ ، وهو قول زيد بن أسلم ومالك وأبي حنيفة والشافعي ، واختلفوا في شهادة بعضهم على بعض عند قاضي المسلمين فأجازها أبو حنيفة ناظرا في ذلك [ ص: 108 ] إلى انتفاء تهمة تساهلهم بحقوق المسلمين ، وخالفهم الجمهور ، والوجه أنه يتعذر لقاضي المسلمين معرفة أمانة بعضهم مع بعض وصدق أخبارهم كما قدمناه آنفا .

وظاهر الآية قبول شهادة العبد العدل وهو قول شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وعن مجاهد المراد الأحرار ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي ، والذي يظهر لي أن تخصيص العبيد من عموم الآية بالعرف وبالقياس ؛ أما العرف فلأن غالب استعمال لفظ الرجل والرجال ألا يرد مطلقا إلا مرادا به الأحرار ، يقولون : رجال القبيلة ورجال الحي : قال محكان التميمي :


يا ربة البيت قومي غير صاغرة     ضمي إليك رجال الحي والغربا

وأما القياس فلعدم الاعتداد بهم في المجتمع لأن حالة الرق تقطعهم عن غير شئون مالكيهم فلا يضبطون أحوال المعاملات غالبا ; ولأنهم ينشؤون على عدم العناية بالمروءة ، فترك اعتبار شهادة العبد معلول للمظنة ، وفي النفس عدم انثلاج لهذا التعليل .

واشترط العدد في الشاهد ولم يكتف بشهادة عدل واحد لأن الشهادة لما تعلقت بحق معين لمعين اتهم الشاهد باحتمال أن يتوسل إليه الظالم الطالب لحق مزعوم فيحمله على تحريف الشهادة ، فاحتيج إلى حيطة تدفع التهمة فاشترط فيه الإسلام وكفى به وازعا والعدالة لأنها تزع من حيث الدين والمروءة ، وزيد انضمام ثان إليه لاستبعاد أن يتواطأ كلا الشاهدين على الزور ، فثبت بهذه الآية أن التعدد شرط في الشهادة من حيث هي ، بخلاف الرواية لانتفاء التهمة فيها إذ لا تتعلق بحق معين ، ولهذا لو روى راو حديثا هو حجة في قضية للراوي فيها حق لما قبلت روايته ، وقد كلف عمر أبا موسى الأشعري أن يأتي بشاهد معه على أن رسول الله قال : إذا استأذن أحدكم ثلاثا ولم يؤذن له فليرجع إذ كان ذلك في ادعاء أبي موسى أنه لما لم يأذن له عمر في الثالثة رجع ، فشهد له أبو سعيد الخدري في ملأ من الأنصار .

والعدد هو اثنان في المعاملات المالية كما هنا .

وقوله : فإن لم يكونا رجلين أي لم يكن الشاهدان رجلين ، أي بحيث لم يحضر المعاملة رجلان بل حضر رجل واحد ، " فرجل وامرأتان " يشهدان ، فقوله فرجل وامرأتان [ ص: 109 ] جواب الشرط ، وهو جزء جملة حذف خبرها لأن المقدر أنسب بالخبرية ، ودليل المحذوف قوله : واستشهدوا وقد فهم المحذوف فكيفما قدرته ساغ لك .

وجيء في الآية بـ ( كان ) الناقصة مع التمكن من أن يقال : فإن لم يكن رجلان . لئلا يتوهم منه أن شهادة المرأتين لا تقبل إلا عند تعذر الرجلين كما توهمه قوم ، وهو خلاف قول الجمهور ؛ لأن مقصود الشارع التوسعة على المتعاملين ، وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم بإدخال المرأة في شئون الحياة إذ كانت في الجاهلية لا تشترك في هذه الشئون فجعل الله المرأتين مقام الرجل الواحد وعلل ذلك بقوله : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى وهذه حيطة أخرى من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسيان لأن المرأة أعف من الرجل بأصل الجبلة بحسب الغالب ، والضلال هنا بمعنى النسيان .

وقوله : أن تضل قرأه الجمهور بفتح همزة " أن " على أنه محذوف منه لام التعليل كما هو الغالب في الكلام العربي مع " أن " والتعليل في هذا الكلام ينصرف إلى ما يحتاج فيه إلى أن يعلل لقصد إقناع المكلفين ، إذ لا نجد في هذه الجملة حكما قد لا تطمئن إليه النفوس إلا جعل عوض الرجل الواحد بامرأتين اثنتين فصرح بتعليله ، واللام المقدرة قبل " أن " متعلقة بالخبر المحذوف في جملة جواب الشرط ؛ إذ التقدير : فرجل وامرأتان يشهدان ، أو : فليشهد رجل وامرأتان ، وقرءوه بنصب " فتذكر " عطفا على أن تضل ، وقرأه حمزة بكسر الهمزة على اعتبار " إن " شرطية و " تضل " فعل الشرط ، وبرفع " تذكر " على أنه خبر مبتدأ محذوف بعد الفاء ؛ لأن الفاء تؤذن بأن ما بعدها غير مجزوم والتقدير فهي تذكرها الأخرى على نحو قوله تعالى : ومن عاد فينتقم الله منه .

ولما كان " أن تضل " في معنى لضلال إحداهما . صارت العلة في الظاهر هي الضلال ، وليس كذلك ، بل العلة ما يترتب على الضلال من إضاعة المشهود به ، فتفرع عليه قوله : فتذكر إحداهما الأخرى لأن ( فتذكر ) معطوف على " تضل " بفاء التعقيب فهو من تكملته ، والعبرة بآخر الكلام كما قدمناه في قوله تعالى : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب ونظيره كما في الكشاف أن تقول : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه ، وفي هذا الاستعمال عدول عن الظاهر وهو أن يقال : أن تذكر إحداهما الأخرى عند نسيانها . ووجهه صاحب [ ص: 110 ] الكشاف بأن فيه دلالة على الاهتمام بشأن التذكير حتى صار المتكلم يعلل بأسبابه المفضية إليه لأجل تحصيله ، وادعى ابن الحاجب في أماليه على هذه الآية بالقاهرة سنة ست عشرة وستمائة : أن من شأن لغة العرب إذا ذكروا علة - وكان للعلة علة - قدموا ذكر علة العلة وجعلوا العلة معطوفة عليها بالفاء لتحصل الدلالاتان معا بعبارة واحدة ، ومثله بالمثال الذي مثل به الكشاف ، وظاهر كلامه أن ذلك ملتزم ولم أره لغيره .

والذي أراه أن سبب العدول في مثله أن العلة تارة تكون بسيطة كقولك : فعلت كذا إكراما لك ، وتارة تكون مركبة من دفع ضر وجلب نفع بدفعه ، فهنالك يأتي المتكلم في تعليله بما يدل على الأمرين في صورة علة واحدة إيجازا في الكلام كما في الآية والمثالين ، لأن المقصود من التعدد خشية حصول النسيان للمرأة المنفردة ، فلذا أخذ بقولها حق المشهود عليه وقصد تذكير المرأة الثانية إياها ، وهذا أحسن مما ذكره صاحب الكشاف .

وفي قوله : فتذكر إحداهما الأخرى إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقول : فتذكرها الأخرى ، وذلك أن الإحدى والأخرى وصفان مبهمان لا يتعين شخص المقصود بهما ، فكيفما وضعتهما في موضعي الفاعل والمفعول كان المعنى واحدا ، فلو أضمر للإحدى ضمير المفعول لكان المعاد واضحا سواء كان قوله ( إحداهما ) - المظهر - فاعلا أو مفعولا به ، فلا يظن أن كون لفظ ( إحداهما ) المظهر في الآية فاعلا ينافي كونه إظهارا في مقام الإضمار لأنه لو أضمر لكان الضمير مفعولا ، والمفعول غير الفاعل ، كما قد ظنه التفتازاني لأن المنظور إليه في اعتبار الإظهار في مقام الإضمار هو تأتي الإضمار مع اتحاد المعنى ، وهو موجود في الآية كما لا يخفى .

ثم نكتة الإظهار هنا قد تحيرت فيها أفكار المفسرين ولم يتعرض لها المتقدمون ، قال التفتازاني في شرح الكشاف : ومما ينبغي أن يتعرض له : وجه تكرير لفظ " إحداهما " ، ولا خفاء في أنه ليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي الناسية إلا أن يجعل ( إحداهما ) الثانية في موقع المفعول ، ولا يجوز ذلك لتقديم المفعول في موضع الإلباس ، ويصح أن يقال : فتذكرها الأخرى ، فلا بد للعدول من نكتة ، وقال العصام في حاشية البيضاوي : نكتة التكرير أنه كان أصل التركيب : أن تذكر إحداهما الأخرى [ ص: 111 ] إن ضلت ، فلما قدم ( إن ضلت ) وأبرز في معرض العلة لم يصح الإضمار ، أي لعدم تقدم المعاد ، ولم يصح : أن تضل الأخرى . لأنه لا يحسن قبل ذكر ( إحداهما ) أي لأن ( الأخرى ) لا يكون وصفا إلا في مقابلة وصف مقابل مذكور ، فأبدل بـ ( إحداهما ) أي أبدل موقع لفظ ( الأخرى ) بلفظ ( إحداهما ) ولم يغير ما هو أصل العلة عن هيئته ؛ لأنه كان لم يقدم عليه أن تضل إحداهما يعني فهذا وجه الإظهار .

وقال الخفاجي في حاشية التفسير : قالوا : إن النكتة الإبهام ؛ لأن كل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير ، فدخل الكلام في معنى العموم ، يعني أنه أظهر لئلا يتوهم أن إحدى المرأتين لا تكون إلا مذكرة الأخرى ، فلا تكون شاهدة بالأصالة ، وأصل هذا الجواب لشهاب الدين الغزنوي عصري الخفاجي عن سؤال وجهه إليه الخفاجي وهذا السؤال :


يا رأس أهل العلوم السادة البرره     ومن نداه على كل الورى نشره
ما سر تكرار إحدى دون تذكرها     في آية لذوي الأشهاد في البقره
وظاهر الحال إيجاز الضمير على     تكرار إحداهما لو أنه ذكره
وحمل الإحدى على نفس الشهادة في     أولاهما ليس مرضيا لدى المهره
فغص بفكرك لاستخراج جوهره     من بحر علمك ثم ابعث لنا درره

فأجاب الغزنوي :


يا من فوائده بالعلم منتشره     ومن فضائله في الكون مشتهره
تضل إحداهما فالقول محتمل     كليهما فهي للإظهار مفتقره
ولو أتى بضمير كان مقتضيا     تعيين واحدة للحكم معتبره
ومن رددتم عليه الحل فهو كما     أشرتم ليس مرضيا لمن سبره
هذا الذي سمح الذهن الكليل به     والله أعلم في الفحوى بما ذكره

وقد أشار السؤال والجواب إلى رد على جواب لأبي القاسم المغربي في تفسيره إذ جعل ( إحداهما ) الأول مرادا به إحدى الشهادتين ، وجعل ( تضل ) بمعنى تتلف بالنسيان ، [ ص: 112 ] وجعل ( إحداهما ) الثاني مرادا به إحدى المرأتين ، ولما اختلف المدلول لم يبق إظهار في مقام الإضمار ، وهو تكلف وتشتيت للضمائر لا دليل عليه ، فينزه تخريج كلام الله عليه ، وهو الذي عناه الغزنوي بقوله : ومن رددتم عليه الحل . . . إلخ .

والذي أراه أن هذا الإظهار في مقام الإضمار لنكتة هي قصد استقلال الجملة بمدلولها كيلا تحتاج إلى كلام آخر فيه معاد الضمير لو أضمر ، وذلك يرشح الجملة لأن تجري مجرى المثل ، وكأن المراد هنا الإيماء إلى أن كلتا الجملتين علة لمشروعية تعدد المرأة في الشهادة ، فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها وقلة ضبط ما يهم ضبطه ، والتعدد مظنة لاختلاف مواد النقص والخلل ، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى فقوله : " أن تضل " ، تعليل لعدم الاكتفاء بالواحدة ، وقوله : فتذكر إحداهما الأخرى تعليل لإشهاد امرأة ثانية حتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية